الأرصفة التي لا ينتظرنا عليها أحد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 71
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عزمي عبد الوهاب

في البداية أدركنا حجم الخدعة الكبرى، التي تعرضنا لها، حين ابتعنا أحلاما، لم تكن لنا، كانت وهما باعه لنا المبشرون بجنة الانفتاح الاقتصادي، فمازلنا نرسف في فقرنا، كما أننا فقدنا الحلم بعدالة الأرض والسماء، أصبح ظهرنا مكشوفا دون أحلام، وليس ثمة من جدار ترتكن الروح إليه، لم يعد هناك مكان إذن ل "نحن" فلتظهر ال "أنا" رأسها على استحياء، وليكن السؤال: ماذا تريد؟ ولتكن الإجابة: أريد أن أكتب نصا يوازيني في لحظاتي العبيطة

رأيت أن قوتي تكمن في الخسارات التي أكسبها، وهذا اليقين المزعزع، فالهزائم في الشارع، والكوابيس تحت الوسادة، وآدميتي مهدرة في الأتوبيسات العامة، والغرف الضيقة التي لم تأتلف معي.. فادحة تجاربي المتواضعة، ومع ذلك ما زلت أعيش، فهل يكون بعد ذلك من المناسب أن أوقع هذه التجارب في تفاعيل ومفردات متأنقة، وجمل غائمة، وصور خاوية من المعنى، كل هذا ليهتف الآخر الذي لا أعرفه (الله.. يا للجمال).. هل أكون كذلك متسقا مع نفسي؟ يحق لي الآن أن أضحك مع نفسي حين رددت مع أحد أنبياء الحداثة (أنا أكتب ما نسيه الله ولم يكتبه).

ستكون السخرية سلاحا مريرا لمواجهة العالم وقوانين الطبيعة، ولمواجهة إحباطاتي في الأساس، لن أتوارى كما فعل سابقو السابقين، وراء لغة مجازية، أخفوا بها تشوهاتهم، لقد تقمصت هاتين الصورتين على مدار ديوانين – لم أدفع بهما للنشر – وفيما بعد اكتشفت أنهم يكتبون عن الحياة، لا يكتبون الحياة، يكتبون لتكريس سلطة لا لتقويضها، يكتبون قصائدهم على الشاطئ، راصدين حركة الموج خشية أن تبتل أقدامهم.

كيف أستطيع الإمساك بتلك اللحظة المراوغة التي تشكل لحمة النص، كل ما أعرفه أنى تخليت عن طموحي الأول بمحاولة الوصول إلى مرحلة تكتبني فيها القصيدة إلى مرحلة أكثر رحابة أكتب فيها النص – دون تصور مُسبق – أنا أطمع في اصطياد سمكة كبيرة، حتى لو وصلت بها إلى الشاطئ هيكلا عظميا كسمكة “هيمنجواى” في “العجوز والبحر”، في كل مرة أرمى فيها شباكي أنتظر هذه السمكة، فلينتظر العالم.

في رحلة عمل قصيرة إلى مدينة جدة بالسعودية، لم تجد مكانا لجسدك الضئيل وسط مجموعة من البشر ستعود إلى الوطن بهيئة براميل لها لحى ينقصها التهذيب، كان طبيعيا أن تظل حبيس الشقة أكثر الوقت، وفى النوم، يتكرر المشهد: يدان تمتدان لتفتحا رأسك، وتعبثا بمحتوياتها، فتعاودك كوابيس خيباتك الأولى، تصحو مرتعدا، تتصبب عرقا وحمى، تبحث عن ورقة وقلم، تكتب – متخلصا من التفعيلة للمرة الأولى – عن المدن الغارقة في وحل الأجناس، كيف ستواجه هذه الصحراء وحدك – دائما كنت وحدك – دون كتاب، دون كتابة.

لكنك كتبت، أنت الذي تعتقد أن العلاقة بالمكان تحدد شكل وفحوى الكتابة وكل مكان لا يمنحك أمانا ما ولو كان وهميا هو بمثابة تحذير بإمكانك التوقف عن الكتابة، استدعيت جسدك الحقيقي، وأماكنك الخاصة، وأشياءك المحببة، وكان لابد أن تكون مفرداتك حقيقية كحياتك، أنت مقيد، والكتابة وحدها تفتح لك سماء حريتك، فلتخلص النص من الهواء الملوث بالنفط والأغبياء الذين لا يعنيهم موت “جمال حمدان”، بأسطوانة غاز.

هكذا قلت لنفسك: اكتب مستعينا بطفولتك، بأصدقائك، بأماكنك التي تحب وتكره، بأجساد النساء اللواتي عبثت بها في الغرف الرطبة المعتمة، أنت حُرٌّ فاكتب الجنون والفوضى بلغة حية هي الحياة ذاتها، انج بنفسك قبل أن تتصدع وتنمو الأعشاب فوق أعضائك.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم