اعترافات كاتبة

صفاء النجار 2
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صفاء النجار

نحن مراوغون ومعقدون بدرجة تجعلنا لا نتبين أى سلوكنا يمكن أن نطلق عليه أنانية وأيها إيثارًا للآخرين.

أنا كاتبة.. أنا كاتبة.. أنا كاتبة..

أكتبها كل يوم ثلاث مرات كى لا تسقط من ذاكرتى، كى لا تتفلت من يدى كطفل حرون يتوه من والدته فى زحمة الموالد التى تعيشها.

أنا كاتبة.. أرتدى نظارتى، وأفتح «لاباتى» الثلاثة حيث يتفرق نثر روايتى.. إيزيس فى رحلتها لتجميع الرب الحى.. أعيد تشكيلها، ترتيب المقاطع المتفرقة.. دمعة هنا، سر هناك

يقول حبيبى: ستكون رواية عظيمة.

أضحك: المهم أن تصبح رواية أولًا.

إلى أين ستأخذنى هذه الرواية التى بدأت بشخصية دون فضاء غير الخسارة والألم واستجمعت حولها عائلة وبيتًا وتاريخًا.

أختار من أغنيات أم كلثوم.. سلوا قلبى، من أجل عينيك، الأطلال..

واستدفئ بكوب شاى أخضر وقضمات من تفاحة حمراء.

تمر شتاءات وصيفيات..

أتعرف كل أسبوع على كاتب مجهول بالنسبة لى.. الألمانى: شيللر، الفرنسى: شار، الروائية: بيرل باك.. العالم كبير كبير، ملايين الجزيئات كيف لى أن أتفهمها، ما أجهله أكثر كثيرًا مما أعرفه، نقطة ضوء واحدة تسقط وتتسع الدائرة وأنا أغترف الضوء أحاول، أحاول.

أود لو عدت طالبة الثانوية العامة، أجلس على مكتبى لا أقوم إلا للنوم، وتفتح أمى باب حجرتى فقط للاطمئنان على.

ما أن اندمج فى الكتابة حتى تأتينى مريم: ماما بتكتبى إيه؟ تكمل عندما لا أجيب: أه، عارفة الرواية، ممكن أقرأ اللى بتكتبيه؟

ما أكتبه لا يمكن قراءته، لا أكتب بترتيب، أكتب ما يريد شخوصى أن يرووه، ما يريدون أن أعرفه عنهم، أحاول أن أدفعهم للبوح، للاعتراف، وكثيرًا ما يقتنعون، وتنفك عقدة لسانهم وينساب شلال ذكرياتهم، وما أن انتهى من عيش ما قالوا فى ذهنى حتى أكتفى وأتكاسل عن تسجيل ما قالوا.

أنا أكتب نصوصى فى عقلى أولًا وكثيرًا ما أكتفى بهذه المتعة الصغيرة، مثلًا استحلاب قطع شكولاته الرافيلو البيضاء.

أورط نفسى بالتزامات كتابية.. يمنحنى حبيبى مساحة أسبوعية فى جريدته، وعندما يتصل بى صديقى الشاعر «محمد أبوزيد» من موقع الكتابة الثقافى ويقول ما تكتبينه فى الدستور ليس مقالات، أضحك وأقول: رئيس التحرير يتواطأ معى وهو يعرف سرى المنثور عبر مساحة منحنى إياها لأننى حبيبته.

كما أعد صديقى الشاعر سمير درويش بأن أرسل لمجلته «ميريت الثقافية» قصة شهريًا، أنا حاضرة وجاهزة للتورط فى أى كتابة ولدىّ التزام تجاه الآخرين.. أكثر من التزامى تجاه نفسى.

يقول حبيبى: يجب أن تتحلى ببعض الأنانية، وتهتمى بنفسك.

معه بعض الحق، لكن نحن مراوغون ومعقدون بدرجة تجعلنا لا نتبين أى سلوكنا يمكن أن نطلق عليه أنانية وأيها إيثارًا للآخرين.

أنا أخاف الكتابة.. أنا أخاف خيالى.. أخاف أن أذهب خلف المرآة، أخاف حين أرحل ألا أعود، بعد كل كتابة، لا تعود كما كنت، أنت لا تخوض التجربة مرتين وإذا شعرت بأننى أعرف المكان الذى ذهب إليه خيالى وأنه واضح ومألوف أرتد سريعًا.

سألنى الروائى الكبير فتحى إمبابى: كيف كتبت الحور العين تفصص البسلة؟. ما هذا الخيال!! ما هذا الجموح!!

أجبت وأنا أضحك: لا أعرف.

هناك أشياء لا تستطيع شرحها.

لكننى الآن أعرف.. كنت قد قررت أن أكتب قصة من خيالى، قصة لا وجود لظل من عالمها فى ذاكرتى أو روحى كتبتها فى جلسة واحدة.. كنت أتتبع خيالى، أصابعى تلهث خلف تصوراته وانتقالاته، ضربات فرشاة قوية، ألوان مرحة صارخة، والبنت تنتقل من المرآة إلى السيرك إلى كهف العرافة، وفى وسط الدار فرن تضع فيه الأم صينية كبيرة تتسع لوليدة معطرة بالريحان وملفوفة بالخردل، ومائدة بشموع وسكين يغرس فى الجسد الذهبى بعد الشواء، أمهات فى حجرهن طبق ممتلئ بالبسلة ومدرس مثار فى فصل للمراهقات وهن يعبثن به، ومستشفى للمجانين تتبادل فيه مريضة الحديث مع نفسها، كل كلمة قادتنى لما بعدها دون أن أعرف أين سأنتهى.

كل كتابة تحتاج لشجاعة والشجاعة تحتاج لطاقة والطاقة تحتاج مولد والمولد يحتاج لحافز.. والبيضة عند الفرخة، والفرخة عايزة قمحة، والقمحة عند الفلاح، والفلاح عايز ميّة، والميّة عند الترعة.. والترعة عايزة..

مقالات من نفس القسم