ابنى بيتًا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 13
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صفاء النجار

أحاول تذكر الحكاية.. لا أجد غير صوت أبى ينادينى: ابنى بيتا.

أُسرع إليه، أجرى بين أعواد الذرة، الظلمة الغامقة الخضرة تحاصرنى، لزوجة طحلب استقر على بركة آسنة، وامتص ماءها، ويقاوم فناءه بالتفتت إلى آلاف القطع الصغيرة المترامية الأطراف التى تلتصق بوجهى، أنزعها، تجرحنى، أرميها بعيدًا، فإذا هى ترتد أذرعًا مستطيلة من أعواد الذرة الوبرية ذات الأطراف الحادة، وريقات الذرة طويلة ملتوية كحية تطاردنى طوال الوقت، ولا ترضى بأقل من موتى، فيفرز الخط الأصفر الوميض الفاصل بين نصفيها سائلا مُرًا، ينفذ من مسامى، يقبض شرايينى، فأكاد أسقط والأوراق الخضراء تزداد كثافة وبرها، أجرى ويطاردنى صوت حريق يلهث خلفى، ويشعله احتكاكات الهواء بعيدان الذرة، وطائر لا أراه يصيح: قاق، قاق، والأرض الممتلئة بالبصل والمغطاة بالقش تنتظرنى بعيدًا، حيث يجرب أبى حظه فى التجارة وتخزين البصل للمرة الأخيرة. مكدودة ومجروحة أصل إليه، رغم أن الطريق الأساسى لم يكن به ما يعوق مسيرى.

لماذا عبرت من حقل الذرة؟ هل خفت الشمس الحارقة؟ أو ربما أبعدنى عن الطريق خوفى من العجوز التى انقلب دقيقها، وتطلب من أية فتاة تمر بها أن تجمع لها الدقيق الواقع على الأرض، وبعد أن تجمعه الفتاة حفنة، حفنة، وتمتلئ «القفة»، تصرخ العجوز فى وجهها: هذا ليس دقيقى، دقيقى أبيض كالفل، وهذا دقيق مترب. ولا تسمح لها بالعبور بل تظل تصيح فى وجهها: أريد دقيقى، والعابرة الشابة حائرة حتى يشيب كل شعرها وتسقط مغشيًا عليها. وفى كل صباح يجد العابرون عجوزًا جديدة تنتظر من تجمع لها دقيقها المسكوب.

بعد عمر أخرج من الأرض إلى الطريق الموازى للنهر. أجده فى انتظارى، يمسك أبى بيدى ويشير للجزيرة الممتدة فى عمق النهر، يردد:

ابنى بيتا. ابنى بيتا.

يتمدد الرجل العجوز على الأرض، جلده رقيق، لونه الأبيض صار غامقًا، وعروق رأسه الزرقاء نافرة، وشعيرات بيضاء تتناثر فى رأسه الذى أحمر جلده من السخونة.

يحتضنه الطمى فيغوص جسده النحيل فيه، وأنا أصرخ: أبى أبى لكنى لا أسمع صوتى، فقط صدى صوت أبى يردد.. ابنى بيتا. أتلفت حولى، أضغط بقدمى، الجزيرة طينية هل يمكنها أن تتحمل ضغط البيت؟ أخرج من الجزيرة، وعلى حافتها أشرع فى البناء، أكوم التراب من الطرقات، أعجنه، أرفع الجدران، وعندما أنتهى لا أجد لبيتى بابًا، فأجلس على عتبته وظهرى للداخل، أسند رأسى لحائط، وفى منامى أجلس على كنبتنا المغطاة بالكليم الأحمر، أتطلع للشمس التى تغيب، تفوتنى صلاة العصر، تغيب الشمس أكثر، فتفوتنى صلاة المغرب يؤذن لصلاة العشاء فأنوى تعويض ما فاتنى، أتهيأ للصلاة، وجهى للقبلة ويدى اليمنى تعلو يدى اليسرى على صدرى وبالضبط على «كورنيش» سفرة جلبابى اللبنى، أبدأ فى قراءة الفاتحة، ينشق الحائط ويقف على يمينى عملاق يرتدى سروالًا أسود عليه بلوفر صوفى من نفس اللون، ترتفع بداية البلوفر فوق رأسى بكثير، أستعيذ فى صلاتى بالله من الشيطان الرجيم، يصعد المارد لأعلى، وتتهاوى الجدران تحت ثقل نور غامر يغشى كل الجهات الأربع، ويمتلئ الكون بسكون، تضطرب له نفسى، وعندما جاء الصباح كانت يد أبى فى يد «البيه» يقرآن الفاتحة.

أستيقظ فزعة، تدغنى الأرواح الساكنة فى تراب البيت، تتشاجر، تتصايح وتدفع بعضها البعض، يضغط صياحهم على الجدران اللبنية، التى لم تر الشمس بعد، يهتز بيتى ويتردد فى نواحيه صدى الأصوات المجتمعة، يهرم بيتى الطفل، يتشقق، يتهاوى، ينصحنى أحد السائرين، فأجمع تراب الطرقات، التراب الناعم، أخلطه بالماء، أدعكه تسير فيه حرارتى، يتجانس، أسد الشقوق، أملأ الفراغات، أساوى جدرانه، أرجوهم ألا يستيقظوا، يتلألأ عرقى، أمسحه بكفى وأمسح كفى فى الحائط فتنغلق المسام الطينية، وتهدأ الروح فى موضع كفى، وكلما عرقت مسدت جدرانى بعرقى، حتى بذلت له كل العرق، لكن بيتى المبنى من الطوب النيئ المعجون بخطوات السائرين الأبديين، الذين لا يعودون حين تغرب الشمس إلا لأحزانهم فيغلقون باب القلب، وينسون مفتاحه خوفا من حزن جديد، لا تسكن جدرانه، وتعود دوما تلفظ ما مسدت، والشمس المعلقة أمام واجهته الخلفية تراوغنى، لا تريد أن تنزل للنهر، فيطول صيامى، والراديو لا يثبت مؤشره عند أذان المغرب، وتظل المائدة مبسوطة أمامى، لا أقرب طعامها، تمر الساعات، لا ليست ساعات، فالشمس مازالت معلقة، لكن رفة رموشى تخبرنى أن شيئا يمر، وإن لم اسمه، أنشغل بانتظارى حتى يغلبنى النوم، ربما؟ أقل من رمشتين لكنهما كافيتان لتنزلق الشمس فى إحداهما إلى النهر وتعبره للشاطئ الآخر، وفى النصف الثانى من الرمشة الثانية، ينبلج الخيط الأبيض من الأسود، فأستيقظ على صوت الأذان، أصرخ لم أفطر حتى أصوم، فيرد على الشيخ «عبدالجواد»: الله أكبر.

وتفتقدين رمضان، كما تفتقدين فى الأسابيع الفائتة يوم السبت، وتنزلق عقارب ساعتك عن الساعة الثامنة، ويغيب عنك الشيخ «عبدالباسط عبدالصمد»، ويضيع منك صوته القوى كصهيل حصان برى يأخذك إلى مريم البتول ومحرابها ورزقها الذى يأتيها بين يديها طيبا مباركا، فلا يبدأ أسبوعك أبدا، ويأخذ وقتك خطا مستقيما لا ينتهى، وتفقد الأيام دائريتها، وتنهار عقارب ساعتك، فيؤذيك سمها.

بينما صوت أبى يردد: ابنى بيتا.

……….

*من رواية “استقالة ملك الموت” ٢٠٠٥

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون