إيقاع الحياة وبلاغة السرد القصصي في “عزف منفرد على إيقاع البتر” لعبد الحميد الغرباوي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 30
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد المسعودي

تشتغل مجموعة “عزف منفرد على إيقاع البتر” لعبد الحميد الغرباوي بالحياة في تنوعها ومفارقاتها واختلالاتها لتوقيع “صوتها السردي المنفرد” ولتشكيل متخيلها القصصي. وفي هذا الأفق توظف إمكانات سردية متنوعة ومتعددة لتشكيل قسمات النص القصصي وبناء بلاغته انطلاقا من منظور جديد إلى الحياة والواقع، وإلى الكتابة باعتبارها فعلا للحياة وفي الحياة، وباعتبارها طاقة لضمان استمرار الحياة والوجود ومساءلة أسرارهما وغوامضهما. وهذه البلاغة القصصية تستثمر معطيات جمالية متنوعة لبناء عوالمها الحكائية، من جهة، ولتشكيل خصائص النص القصصي الفنية، من جهة ثانية. فما تجليات الانشغال بالحياة في “عزف منفرد على إيقاع البتر”؟ وما خصائص البلاغة السردية في المجموعة؟

إن أول ما يلفت نظر قارئ نصوص الكتاب هو الانشغال بوقائع الحياة اليومية، ولكن بكيفية فنية جديدة لا تسرد هذه الوقائع في شكل تقريري/سردي مباشر، وإنما عبر تشكيل قصصي قوامه بلاغة منفتحة تستثمر عناصر فنية كثيرة. في قصة “jazz” يحكي السارد قصة رحلة شارك فيها رفقة صديقين من أصدقائه، بحيث إن هذا الفعل اليومي، وهذا الجانب العادي من الحياة، ومن فعل الإنسان يصبح فعل كتابة وصياغة فنية جديدة وفق أفق تخييلي يجعل من اليومي طاقة تعبيرية وترميزية تكتنه الحياة والوجود عبر فعل الكتابة وبلاغتها المتجددة.

تختلط في محكي هذه القصة حكاية الأصدقاء الثلاثة بحكاية أصوات الريح التي تضرب في كل الاتجاهات، وبحكاية السيارة التي تُقلهم نحو مكان ينتظرهم فيه أصدقاء آخرون، وبحكاية المطر والبرد اللذين يلفان خارج السيارات.. وتمتزج هذه الحكايا جميعا بتداعيات السارد عن حقول القطن في “نيو أورليانز” ومعاناة العبودية وموسيقى الجاز التي تختزل تلك المعاناة والقسوة.. وغيرها من التداعيات التي تستعيدها ذاكرة السارد أو تذهب إليها.

وبهذه الشاكلة تنبني بلاغة هذا النص القصصي على أساس سرد يهتم بالحياة ويوسع دائرتها من بعد ذاتي فردي إلى أفق إنساني شامل، ومن استحضار لموسيقى (الجاز) إلى ربطها بإيقاع الرياح والمطر في طقس رحلة عابرة للحدود. وبهذه الكيفية يتشكل النص فنيا عن طريق إيقاع سردي متوتر واستثمار طاقة التكثيف وتوظيف لغة المجاز المحلقة، وعن طريق هذه المكونات الفنية يتمكن من خلق عوالمه المتخيلة وبنائه الجمالي الخاص.

وفي قصة “هندسة عصفور على الأرض” يحكي السارد عن شخصية بائع جرائد شبه متشرد يطلق عليه لقب “العصفور الحارس”، وهو رجل اتخذ مدخل عمارة متقادمة متهالكة مكانا للإقامة. إن الحكاية تتخذ من سيرة الرجل منطلقا لتُشكل عوالمها الفنية مستثمرة طاقة التشكيل/التصوير وبلاغة السرد المرتكزة على الإيقاع الموسيقي للكلمة والجملة والفقرة لبناء موسيقى سردية تتصل بمجريات الأحداث والوقائع التي ترسمها الكتابة ويشكلها المتخيل. وبهذه الشاكلة يتمكن السارد من الجمع بين حالتين تنتابان المتلقي، وهو يتابع الأحداث، حالة شعور بتسارع الأحداث وتتاليها في تدفق وانسيابية، وحالة شعور ببطء الوقائع وتثاقل الحركة. ويتصل الشعوران بمجريات الأحداث في مراوحتها بين الانتقال من المشاهد الخارجية إلى رصد الأحاسيس الجوانية للشخصية، أو للسارد المنفعل والمتفاعل مع وضع شخصيته المزرية وحالتها الهامشية.

وبالانتقال إلى نص “عزف منفرد على إيقاع البتر”-وهو النص الذي حمل الكتاب اسمه- يحكي في أفقه السردي المضمخ ببلاغة الشعر عن رجل يمضي إلى لقاء امرأة، يمضي على رصيف في شارع طويل لا يكاد ينتهي، وهو يتأمل ما حوله، ويسمع طقطقات حذائه العسكري فوق بلاط الرصيف، ذلك العزف المنفرد، ذلك العزف الذي يجعل الذاكرة ترشح بتداعيات الموت والدم والمعارك الحربية، ومحاولة الرجل أن ينسى مشاهد الوحل والأدران، وأن ينسى تلك الروائح العطنة، روائح التحلل والعفن. وهكذا تمضي القصة مصورة في إيقاعها البطيء المبتور، وبلغتها المكثفة، وجملها المتكررة، وعبر عوالمها المبنية على لعبة التداعي، هذه الحالة الإنسانية. حالة جندي يتلهف الوصول إلى بيت أمه بينما طال طريق أوبته، إلى درجة إحساسه بهول البتر، وانقطاع الحياة به.

وبهذه الكيفية كان النص في جمعه بين تصوير أحاسيس الشخصية ومشاعرها، وتصويره إيقاع خطوات الرجل العسكرية ودقات حذائه على الرصيف بما يحدثه من وقع، ومن ردود فعل لدى الشخصية، نصا يراوح بين تشخيص معاناة الرجل وتقلب خواطره وأفكاره، وبين رصد بانورامي للواقع الخارجي، وما تبصره عين الرجل.

وهذه الخصائص البلاغية السردية التي تتميز بها نصوص المجموعة في اهتمامها بسرد ما يجري في الحياة، وفي انشغالاتها بتفاصيل الحياة اليومية في شتى مظاهرها مركزة على وقائع ظاهرة، وخفايا باطنة ثاوية وراء تلك الوقائع، تتوسل في رصد كل هذه المعطيات بالحوار الداخلي، وبنية التداعي، وبلاغة التوتر سواء في الجانب التركيبي للنص السردي أو في تشكيل عوالمه الحكائية. وبذلك توقع نصوص المجموعة بصمتها على أساس تنويع فني يتخطى المعايير المألوفة لفن القصة، وخاصة في انشغالها بالجانب الفني/ الجمالي للنص ذاته، واستثمار معطيات الفنون الأخرى في تشكيل عوالمه السردية وملامحه الفنية؛ فإلى جانب حضور البعد الموسيقي في النص القصصي عبر تجلياته المتنوعة، نجد الشعر بعوالمه الغنية، ورواسب من السينما والمسرح والتشكيل تتخلل النص القصصي وتؤسس بلاغته.

لنأخذ على سبيل المثال نص “درس القلب على إيقاع جديد” الذي يتخذ من تقنيات المسرح أفقا للاشتغال السردي، بحيث تتصدر فقرات هذا النص عناوين: العرض الأول- حكاية رقم 1- العرض الأول (تابع) – حكاية رقم 2- العرض الثاني. ويمضي النص بانيا عوالمه السردية على أساس شعري/ مسرحي، يوظف فيه الكاتب الخطاب الموجه للشخصية المحورية، وتتقطع جمل السرد، وتتشكل على الصفحة بشكل كاليغرافي عمودي، وكأننا أمام قصيدة شعر حديثة، أما المحتوى الحكائي فيستند إلى التكرار والحذف والتوتر الشعري وبلاغة التصوير، وبهذه الكيفية يسهم التشكيل الجمالي في منح النص خصائص غير مألوفة في صياغة النص القصصي.

ومن أهم ملامح الكتابة القصصية في المجموعة الاشتغال ببلاغة التكثيف من أجل خلق امتداد النص القصصي. وهذا الاستثمار يتمثل في مراوحة جمل النص بين جمل سردية طويلة النفس وأخرى مكثفة سريعة لاهثة النفس، ولعل هذا التوتر التركيبي يخلق تنوعا إيقاعيا/ موسيقيا بينا في النص القصصي. وهذا ما نقف عنده من خلال مقطع من نص “درس القلب على إيقاع جديد”:

“.. ضع يدك على الصدر،

ليس على صدر الكتاب الذي بين يديك،

ولا على صدر الجدار،

الجدار الذي تسند ظهرك إليه الآن..

ولا على صدر تلك الكاعب المبتسمة

الواقفة تتأمل واجهة فساتين العرسان..

ولا على صدر تلك الناهد التي تروح وتجيء على الرصيف

منذ ساعة وأزيد..

احذر أن تفعل..

فقد تُتهم باقتراف جريمة وضع اليد على ممتلكات الغير،

بنية الاستحواذ أو الابتزاز..

أو المضايقة..

وفي أقصى حالات التخفيف،..

قد تتهم بالجنون..” (عزف منفرد على إيقاع البتر، ص. 25)

هكذا نلمس في هذا المقتطف الخصائص الفنية التي ألمحنا إليها أعلاه جميعا: من تكثيف، وامتداد، وحذف، وتوتر، وكتابة كايغرافية/ شعرية، ومن مسرحة للحكاية، وغيرها من اللمحات الفنية التي انبنى عليها هذا النص، وتشكلت منها نصوص أخرى كثيرة في الكتاب.

أما شعرية اللغة والعوالم فتتبدى في ارتفاع مستوى الإيحاء والترميز في المجموعة بحيث تشكل لمحة هامة من ملامح بلاغة السرد القصصي في المجموعة. وحضور الإيقاع والموسيقى بأشكال متعددة: تركيب الجملة_ تكرار مفردات وتردادها_ رد الصدر على العجز_ استثمار طاقة الترادف_ استثمار “التدوير” بمفهوم معجمي/ دلالي_ الازدواج والسجع_. ويتجاوز الأمر ذلك إلى توزيع النصوص على الصفحة البيضاء الذي يتخذ، بدوره، قيمته الجمالية من “الصوت المنفرد” الذي يسهم به في تركيب النص وتحقيق انسيابيته وسرعة إيقاعه السردي.

ومن الجوانب الهامة في المجموعة استثمار إمكانات الفنون البصرية مثل توظيف: اختلافات زوايا المنظر_  الكولاج_ تقريب المنظور وإبعاده_ البتر والحذف في تركيب الجملة وكسر دلالة الملفوظ على شاكلة الكتابة المسرحية… وهذه عناصر كلها تسهم في خلق توليفة قصصية متميزة في نصوص “عزف منفرد على إيقاع البتر” لعبد الحميد الغرباوي. وهذه عناصر لمسنا جوانب منها في المقطع المستشهد به من نص “درس القلب على إيقاع جديد” الذي اتخذناه مثالا للوقوف عند هذه الخصائص الفنية في نصوص “عزف منفرد على إيقاع البتر”.

وفي الختام لا بد من تأكيد انتماء نصوص الكتاب إلى فن القصة على الرغم من أن الكتاب لا يحمل إشارة واضحة إلى فن القصة، ولا يطلق على ما اشتمل عليه سوى كلمة “نصوص”، غير أن من يطلع على هذه النصوص يرى أن منحاها القصصي بين، وأن بناءها الفني يقع بين تخوم الكتابة السردية الخالصة على الرغم من الميل المفرط فيها إلى التجريب والانفتاح المبدع على فنون الآداب الأخرى، وعلى الموسيقى التي كانت الخلفية الثاوية وراء اشتغال هذه النصوص، كما حاولنا أن نبين في هذه القراءة.

……….

*عبد الحميد الغرباوي، عزف منفرد على إيقاع البتر، دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر، الرباط، 2012.

مقالات من نفس القسم