أول النهار: حكاية قرية في حجم الكف

موقع الكتابة الثقافي writers 100
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عبد الرحيم مؤذن

   حول العنوان

   «أول النهار»(1) هو العنوان الرئيسي لرواية الكاتب المصري سعد القرش. زمن قد لا يكون صالحا للحكي بالقياس إلى زمن الليل، لحظة الحكي النموذجية. وزمن النهار، هو زمن الانتشار في الأرض، خاصة أهل قرية «أوزير» بالذات ـ مسرح الرواية ـ طلبا للمعاش، أوقضاء الحاجات المختلفة.

   والعنوان، في الدرس النقدي، عتبة لبداية اشتغال النص، بداية لاشتغال القراءة. وهو، بالإضافة إلى هذا وذاك، ميثاق للقراءة، بين المرسل (الروائي/ السارد) والمتلقي (القارئ).

   وعلى هذا الأساس يتجاوز النهار، في العنوان أعلاه، روزنامة الأيام والحقب والسنين، ليتجه نحو عنوان فرعي آخر دال، بعد قلب الصفحة الأولى، يجسد روزنامة جديدة على الشكل التالي (تخرج إلى النهار).

   النهار إذن في العنوان الرئيسي، بداية يوم جديد، شقشقة الصبح، الطبيعة البكر، تفتح الكائنات، كل الكائنات، في هذه القرية المنسية. إنها صورة عادية، متداولة في بلاد الدنيا، ومنها هذه القرية المسماة بـ«قرية أوزير».

   أما النهار في العنوان الفرعي، فهو انتقال رمزي من الظلمة إلى النور: إنه العتبة الفاصلة بين زمنين: زمن ما قبل النهار، وزمن ما بعد النهار. الزمن الأول زمن الأهوال والكوارث الصادرة عن الطبيعة أو الإنسان (الطاعون/ فيضان النيل/مآسي الأهل والعشيرة/مواجهة القرية لأشكال الفناء والتدمير…). أما الزمن الثاني، زمن ما بعد النهار، فهو الزمن الخارج من رحم قرية منذورة للموت، لكنها تحيا بالأمل وحب الحياة. إنه زمن الاستمرار، ولو كان نطفة ستتحول، لاحقا، عبر الصراع اليومي، إلى علقة، لتستوي خلقا جميلا، مجسدا في الأولاد والأحفاد، وأحفاد الأحفاد إلى أن تنتصر الحياة التي تخفي، في طياتها، بذور الموت، معلنة عن دورة جديدة من دورات الزمن، ومظاهره في الزرع والإنسان والعمران.

   وإذا كان العنوان الرئيس روزنامة الزمان، فإن العنوان الفرعي روزنامة المكان. إنه، كما جاء في النص، سيرة للمكان، علما أن لكل مكان زمان، ولكل زمان مكان. والقرية تبعا لذلك، تمارس البطولة المطلقة، من عمق الخراب. فـ «الكوليزيوم» ما زالت تحمل أطلاله صدى لهاث مصارعي الأسود من عبيد وسجناء ومغامرين، ما زالت تتصادى فيه أصوات الحيوان في صراعه مع الإنسان، وأصوات الإنسان في صراعه مع الإنسان. فالموت حاضر في الحالتين. «موت يخرج لموت» ـ على حد تعبير عبد المعطي حجازي ـ (2) بعد أن تشبع الحجر والشجر، أو القرية، بالعرق والدم، وما زالت، إلى الآن، لحظة القراءة، تنز بقطرات الحياة، أوالموت، لا فرق.. هكذا تصبح القرية المسماة «أوزير» حكاية للإنسان، قبل أن تكون حكاية لمكان محدد، أوفضاء معين.

   «أول النهار» ـ أخيرا وليس آخرا ـ زمن يتداخل فيه الغبش بالغسق، انقشاع الظلام، وزحف جيوشه، في الآن ذاته، إلى الحد الذي نتساءل فيه عن البداية والنهاية: نهاية الليل، أو بداية النهار، أو نهاية النهار وبداية الليل. والأغنية الجميلة لعبدالرحمان الأبنودي (عدى النهار) ذات النفس الملحمي، ترسم نهاية يوم متزامن مع بداية الحكاية. إنه نهار الحكاية، قمر النهار في عز الليل، شموس تشع بها شخصيات كتبت سيرة قرية وقودها الناس والحجارة، الدم والقربان.

   الرواية

   تقوم الرواية على مكون مركزي مجسدا في العائلة. وهو من الأساليب المتداولة في الكتابة الروائية شرقا وغربا. والعائلة، في النص، موضوع حكائي، وأداة من أدواته، من خلال شخوصها جدودا وآباء وأحفادا..

   هي موضوع للحكي، من حيث كونها مادة لتقديم المسار التاريخي لعائلة «آل عمران»، رب الأسرة الذي ولد من رحم الفيضان، منذ خمسين عاما، وزمن الطاعون، ونبوءة عرافة الغجر التي لا تكف عن ترديد اللازمة المرعبة عن «عمران» الذي ينحدر (من عائلة مشؤومة تحل بها الكارثة كل خمسين عاما) . الرواية، ص. 12.

   وعبر أفراد العائلة، تتعدد مصائر الأبناء والأحفاد، والرجال والنساء. وتتعدد، من ناحية أخرى، الموضوعات والقضايا، وإن كانت، على غرار مصائر البشر، تلتقي جميعها في النهاية المأساوية (الموت)، التي، كما سبقت الإشارة، لا تمنع من الإصرار على زرع بذرة الحياة في رحم الأرض، أو في رحم عروس جديدة ـ والأمر سيان ـ لمقاومة الموت، أو الفناء، بالانتصار للحياة، أو الإنسان.

 ولما كانت القرية تحمل اسم «أوزير»، وهي ليست بعيدة عن شخصية غائبة- حاضرة، شخصية «أوزيريس» ـ كما سيتضح خلال التحليل ـ فإن هويتها الحقيقية تتأسس على جدلية الحياة والموت. ومن ثم، فتساقط أفراد عائلة (عمران)، لسبب أو لآخر، تباعا، هو تجسيد لأشلاء «أوزيريس» المتناثرة في الأرض، والتي ترسمت «إيزيس» ـ وفي الرواية يوجد معادلها الموضوعي كما سيأتي لاحقا ـ آثارها، بهدف بناء جسد «أوزيريس» لتستمر الحياة.

   قرية بناها اثنا عشر فردا، وازدهر فيها الحرث والنسل، وطمع فيها القريب والبعيد، من بقايا الأتراك، وفلول العجم (الفرنسيون) ـ خلال القرن 18 ـ ومنهم من راعى الخبز والملح، فبنى الكنيسة والمسجد، وشق الترعة والقناة درءا للفيضان، ومنعا للغزو، ومنهم من انتسب إلى عائلة «عمران» ـ عمران مصر وليس إسرائيل كما جاء في الرواية ـ بالرغم من انتمائه إلى الأجنبي، أو الغريب. ومنهم من فضل البقاء بالقرية بالرغم من هجرة الزوجة والإبنة.. والقرية، في كل ذلك، تعيش المد والجزر، البناء والهدم، كما جسده آخر العنقود «مبروك» الذي أفلت من الطواعين، وفيضان النهر الأخير، بعد أن جرفهم نحو فضاء جديد ستبنى فيه القرية والسلالة، مرورا بآخر الأحفاد ، بدءا بـ «زهور»، مرورا بالأبناء «سالم» وعامر»، ثم «إدريس» و«يحيى» والزوجات «هند»، «ومريم» و«صفية»، وأخيرا ، وليس آخرا، «زهرة» المغربية.

   ومن الطبيعي أن تتحكم، في العائلة، روابط الدم والولاء التي تفاعلت مع السلالة عبر تاريخها الطويل الذي تداخلت فيه روابط النسب بروابط المصالح المشتركة، وروابط المصاهرة (الزواج) بروابط القيم من بطولة ومساندة ومواقف إنسانية دالة.

   ويمكن تفريع هذه الشجرة العائلية إلى جذور ثلاثية محورية امتدت، نصيا، على الشكل التالي:

   1 ـ عمران: رب العائلة وسيد «أوزير» (من ص، 9 ـ 96) والاسم دال على العمران ـ بالرفع ـ الذي كان وراء بناء قرية من عدم.

   2 ـ حليمة وهند (من ص 97 ـ 185) وهما يجسدان قيمة العطاء بدون حساب.

   3 ـ عامر (من ص، 187 ـ 301)، أي إلى آخر صفحة من صفحات الرواية، كدلالة على استمرار السلالة.

   أما بالنسبة للعائلة، أداة للحكي، فإن هذه الأخيرة تصبح فاعلا سرديا، يتحكم في بناء الرواية بمختلف مكوناتها المادية والرمزية والحكائية. وأهم هذه المكونات نذكر:

   طبيعة الرواية الأجناسية التي جعلت منها رواية نهرية تقوم على تعاقب الأجيال، وتفرع الأبناء إلى أحفاد ومصائر ومواقف تبعا للمكونات النفسية والتربوية والجسدية، فضلا عن الحدثية التي تحكمت في هذه المصائر والمواقف عبر مسلكيات محددة.

   ب ـ وبحكم انتمائها إلى هذا النمط، فإن الشخصية جسدت محورها المركزي، في مفاصلها الكبرى، من خلال مستويين:

   ـ مستوى الدم مجسدا في أصول وفروع «آل عمران»، بدءا بـ «مبروك» الذي أفلت من عوادي الزمن، من طاعون وفيضان.. وعبر «مبروك» تتعاقب السلالة، إلى أن تصل إلى آخر الأحفاد «زهور»، مرورا بالأبناء «سالم»، «عامر»، «إدريس» ثم «يحيى»، وما يقابلهم من زوجات: «مريم»، «صفية»، وأخيرا ، وليس آخرا، «زهرة» المغربية.

   ـ أما بالنسبة للمستوى الثاني، مستوى الولاء، فيبدأ بعمود العائلة «حليمة» ـ وهي في جوهرها تتموقع في مرتبة الدم أكثر من مرتبة الولاء ـ مرورا بالعبد «هوجوسيان»، والد «هند» زوجة «مبروك»، ثم «خليل الطوبجي» وابنه «مروان» والقهوجي، وابنه «منصور» الذي سيصبح الآمر الناهي، في القرية، بعد دخول عامر في العد العكسي، بحكم السن. مما دفعه إلى الإسراع بعقد زيجة «عامر» و«زهور» المغربية.

   وروابط الدم والولاء تتفاعل، بدورها، مع روابط الحكاية، سواء تعلق ذلك بالحكاية المركزية، حكاية «آ ل عمران»، وما جرى له من أحداث، توزعت بين الفرح والحزن، أو تعلق ذلك من ناحية أخرى، بما يوازيها من محكيات صغرى صبت روافدها في نهر الحكاية المركزية، حكاية «عمران» والقرية. من بين هذه المحكيات نذكر:

   ـ حكاية «حليمة» المحايثة لحكاية «عمران».

   ـ حكاية «مبروك» و«هند» ابنة العبد لمحرر «هوجوسيان» من جهة. وسقوطه ـ من جهة ثانية ـ من سطح المنزل، ليلة عرسه، وهو في عز النشوة والمتعة بجانب «هند».

   ـ حكاية «سالم» المسالم، ومقتله، أثناء بحثه عن أخيه «عامر» المتمرد..

   ـ حكاية «عامر» الطائش، وتغربه، ثم عودته إلى القرية وزواجه، ثم إنجابه لولديه «إدريس» و«يحيى».

   ـ حكاية هند مع مبروك الزوج، ومع ـ من ناحية أخرى ـ ولديها: سالم وعامر.

   ـ حكاية مريم مع سالم.

   ـ حكاية صفية مع عامر.

   وبجانب هذه المحكيات الكبرى والصغرى، الرئيسية والفرعية، وجدت مرويات أخرى لعبت دورا تأثيثيا، في انتظار تحولها إلى محكيات قائمة الذات ما دامت قرية «أوزير» مشروع حكاية كبيرة ساهم فيه الأهالي، من مواقع مختلفة، كما هو الشأن بالنسبة للعبد المحرر «هوجوسيان»، و«الطوبجي» والقهوجي وابنه «منصور»، مرورا بالأجانب، من فرنسيين وإيطاليين، مثل «كارلو» و«رينيه» و«موران».

   من هنا كان السرد الملائم للرواية، مجسدا في السرد الأفقي (الخطي) الذي يتابع، من البداية إلى النهاية، تشكل عائلة «آل عمران» من الجد إلى الحفيد.

   ولا شك أن الخط السردي الأفقي، بالرغم من انتشار بؤر حكائية عديدة، يلائم هاجس التأريخ الذي حرصت الرواية على إبرازه، من خلال التأريخ للمكان، أثناء التأريخ للأفراد. ومن ثم كانت الرواية النهرية الوجه الآخر للرواية التاريخية، مع وجود فارق نوعي، جعل من الرواية التاريخية رواية الماضي، عن طريق إحياء أبطالها للدلالة على الحاضر، وجعل من الرواية النهرية، رواية الحاضر لاسترجاع الماضي، ماضي القيم المنتصرة للإنسان في صراعه مع واقعه، وتجسد تفاعل هذين الوجهين ـ التاريخي والنهري ـ في:

   أ ـ التوثيقية (التسجيلية) التي ربطت الرواية بالنص الواقعي بمعجمه وأحداثه، وإلحاحه على الخصائص الاثنوغرافية والتقاليد السائدة، والطقوس المتوارثة.. كل ذلك جعل من هذه الرواية نصا نموذجيا من نصوص الرواية الواقعية، رواية القرن 18، التي تفاعلت فيها مصائر الشخوص بمصير القرية وتحولاتها.

   ب ـ والاحتفال بهذه الخصائص، كشفت عن سلطة سارد «عليم بكل شيء» وجد خارج النص، دون أن يتمكن من إخفاء تعاطفه مع القرية وأهلها، بعد أن انحاز إلى قيم محددة أعلت من شخصية «عمران» التي انتصرت للحياة ضد الموت. فالناس يذهبون والقيم يجب أن تبقى.

   ج ـ وبرز ذلك جليا في التأكيد على زمن القرية الموازي: والمعارض، للزمن السائد. فالسارد العليم بكل شيء انطلق من روزنامة القرية، من خلال مصر القديمة بمرجعيتها القبطية، (بؤونة/توت..) بعيدا عن التاريخ الميلادي (ق 18). فالقرية خاضعة لزمنها الخاص، وما يتعلق بما وجد خارج هذالزمن (بقايا الإقطاع العثماني/الاستعمار الفرنسي..) تتم مواجهته بأساليب عديدة، ومنها قيم القبيلة المشار إليها، آنفا، والمجسدة في تماسك العائلة الصغيرة (آل عمران)، والعائلة الكبيرة (الأهالي) ضد الغريب، من جهة، وضد المدمر لمختلف تجلياتها من نجدة ووفاء وكرم وصبر، من جهة ثانية.

   د ـ هكذا أصبحت القرية ـ بالرغم من عزلتها ـ مسرحا لتجسيد قيم تتضاءل يوما عن يوم، لكنها تستمر على يد هذه السلالة الرافضة لأي شكل من أشكال الهزيمة. ولعل ذلك هو الذي خلع على القرية ـ كما هو شأن قرى عديدة قدمتها نصوص روائية إنسانية ـ طابعها الأسطوري الذي جعل منها قطرة في عرض محيط شاسع، لكنها قطرة تفعل في حركية الموج مدا وجزرا.

   وبرزت مظاهر هذه الأسطرة للقرية من خلال الآتي:

   ـ الشخصية الروائية من خلال نموذجي «عمران» و«حليمة.

   فحليمة تماثل «إيزيس» التي تعرف أن القرية منذورة للموت، كما أخبرتها العرافة الغجرية، وهي تمسح على رأس «مبروك»، أو الشلو الذي سقط من أعلى السطح ليلة عرسه، بعد أن (لحقته لعنة كبير الآلهة رع لأمه نوت، التي وقعت على رأس أوزوريس حفيده، بمعنى أن لعنة الآباء، تلحق وتقع على رأس الأبناء،أو أن الآباء يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون).(3) وظلت «حليمة» حريصة على لملمة أشلاء القرية أبناء وأحفادا، إلى أن غابت مبتسمة في وجه الموت».

   حليمة، إذن، تعويذة القرية التي حمت الكل ما عدا في حالة واحدة، حالة القدر الذي لا مفر منه. من ناحية أخرى، جسدت «حليمة» شخصية «إيزيس»، حكائيا، عن طريق لملمتها لأحداثها، ترميما وتوظيفا في المواقف الحاسمة، حفاظا على استمرار القرية وقيمها المتوارثة.

   أما بالنسبة للشخصية الأسطورية الثانية، شخصية «عمران»، فإنها تجسد شخصية «أوزيريس» المتجدد. فهو سليل الموت، بعد أن خرج، منذ خمسين عاما، من صلب الطاعون والفيضان. جسمه، على حد تعبير الشنفرى، مقسم في جسوم كثيرة، جسوم الأبناء والأحفاد. وبمجرد غياب أحد أفراد السلالة، ينبت، في مكانه، كائن آخر. و«حليمة» شاهدة على كل ذلك، تمده بعناصر الحياة والاستمرار، بعد أن تحول إلى مستودع رمزي لتاريخ القرية وتحولاتها.

   ومن مظاهر الأسطرة، أيضا، في هذه الرواية، توظيف عناصر مكونات العالم، كما وردت عند الفلاسفة القدامى، من هواء وتراب وماء ونار.

   1 ـ الماء: عنصر الحياة (الضرورة اليومية)، وهو عنصر الموت (الطوفان الذي دفع بالأهالي إلى الهجرة وبناء قرية جديدة). وهو صلة وصل بالعالم سلبا (الغريب/ المستعمر) أو إيجابا (الخير العميم)، أو تفاعلا مع الآخر، سواء معتقدا أسطوريا (النداهة)، أومع فرد غائب من أفراد السلالة.

   والماء أداة للتعميد والتطهير، في آن واحد، من خلال حادث غرق «هند» التي أغرقت نفسها في النيل، وكأنها تمارس طقسا لا شعوريا من طقوس التعميد استعدادا للذهاب إلى العالم الآخر حيث يوجد «مبروك» الذي لم يغب عنها لحظة واحدة.

   2 ـ أما التراب فبرز جانبه الأسطوري، من خلال التمثال الذي يشبه «سالم» شقيق «عامر»، والابن المسالم، من عائلة «عمران». وسيصبح التمثال تعويذة القرية، بعد «حليمة»، مستودع أسرار القرية الرمزي. لنستمع إلى هذا الوصف للتمثال الذي (يقترب طوله من ارتفاع شجرة كافور، وعرضه يزيد على ساقها. كان منحوتا من الجرانيت لرجل عملاق، يقف بكبرياء، ناظرا إلى الأفق متعاليا على الحياة وما فيها. تلفه عباءة تبرز منها إحدى ذراعيه، وقدماه في نعلين لا يخفيان أصابعه المنحوتة بدقة تكاد تنبض فيها الدماء.. وبلا اتفاق أطلقوا عليه «سيدي سالم». ثم وضعوه فوق قاعدة مرتفعة، أمام البوابة، في مواجهة القادم إلى «أوزير» من سمنود).(4)

   السؤال الآن: من يشبه الآخر؟ سالم أم التمثال؟

   وفي الرواية توظيفات عديدة للموروث الثقافي في القرية، من «نداهة» ومرويات مختلفة.

   3 ـ النار: وهي متوزعة المصادر بين نار الأعراس والطقوس والكوانين والمواسم، وبين نار الغزو (بنادق النصارى) بين نار الشوق والعاطفة المشبوبة، ونار الحقد والموجدة.

   4 ـ الهواء: هو شمس «بؤونة» القاسية، وهو العصاري الرائعة. هو الليالي المرعبة، والنهارات المبتسمة. هجير لافح، ونسيم رائق. ريح خبيثة، أو ريح طيبة.

   عبر هذه العناصر الأربعة، صنعت القرية أسطورتها بعد أن بنيت من قبل اثني عشر فردا، ولكنها ظلت منذورة للموت، كل خمسين سنة. فهي الصورة المقلوبة لـ«إرم ذات العماد» التي تسعد كل من رآها، كل أربعين سنة. هي قرية اللعنة الأبدية التي ظلت تطارد أهلها من مكان إلى آخر، ويتحول «عمران»، خلالها، إلى شخصية ملحمية تكرر ما فعله «آدم» عندما عمر الأرض.

   والقرية، أولا وأخيرا، تتحول سيرتها إلى سفر ضخم، أشبه بـ «كتاب الموتى»، الذي حمل في الأصل عنوانا دالا هو (الخروج إلى النهار)، وهو عنوان ليس بعيدا عن عنوان روايتنا الحالية.

   هكذا تحولت القرية إلى (أليغوريا) للحياة والموت، انتصر فيها الإنسان للحياة من عمق الموت. وبفضل هذه الأسطرة انتقلت القرية، من مكان معزول في العالم، إلى دلالة العالم برمته.

……….

   هوامش:

   1ـ سعد القرش: أول النهار.

   2 ـ من قصيدة بعنوان: جزيرة شدوان. والنص يحكي عن المقاومة البطولية ـ معارك القنال ـ لمصر ضد الاحتلال الإنجليزي.

   3 ـ شوقي: موسوعة الفولكلور والأساطير العربية. مكتبة مدبولي1995. ص.75.

   4 ـ الرواية. ص.176.

* ناقد مغربي

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم