«أول النهار»: الزمان حلما.. المكان إنسانا

موقع الكتابة الثقافي writers 91
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عذاب الركابي

إن الشكل الملحمي للرواية ينبعث من غربة البطل إزاء العالم الخارجي» ـ جورج لوكاتش / نظرية الرواية.

   «إن النص ليس خطا من الكلمات التي تمنحنا معنى لاهوتيا مفردا، وإنما فضاء، متعدد الأبعاد، تمتزج فيه وتتصادم مجموعة من الكتابات» ـ رولان بارت / أقنعة بارت.

   «أول النهار» ملحمة شعبية.. وسيرة غيرية بامتياز!!

   كتبت بدم إنسان ظامئ للنهار، وغافلت الوقت وهي تستولي على كنوز أبديته، وأضواء لحظاته «وفي هذه اللحظة نعيش حاضرا مطلقا» كما يقول أنطونيو تابوكي، قد ينزف هذا الحاضر ضوءا نحيلا، ولكن ضجته تحيل الظلمة الثقيلة إلى مواكب نور، وتلك دفقة الضوء الأولى في «أول النهار»!!

   والرواية طقس نهاري مشمس، يضعف خطوات ليل آثم، ويعلن نهايته، اجتمعت أحداثها وشخوصها وفضاءاتها على قهر التاريخ، وإرباك خطى رواته، ليبدو بلا سلطة، ومحكمة ملغاة تم انعقادها في يوم خارج الزمن، وهو يجر أذيال هزيمته ويهذي جريحا منكسرا: «لا توجد حقيقة خارج الإبداع.. خارج الفن».. وتلك إحدى شذرات فكر الكاتب سعد القرش!!

   والرواية حروفها دمع النهار الذي لم تغب شمسه على امتداد الزمان، واتساع جغرافيا المكان، وهو منسكب من مقلة الصبر ليضيء في شريان الأبد، منتصرا للمكان المفضض بأحلام إنسانه.. وهي بكل تفاصيلها ومفارقاتها أحداث يقرأ الخيال فيها واقعا مركزا، ليعيش بإيقاعه الدرامي.. وشخوص (أبطال) لم يتركوا مكانهم لرواة التاريخ، ليعبثوا في حقائق وأسباب جراحهم، وحكايات عشقهم، وجولات بطولاتهم، ويتحدثوا عنهم بأحرف بحبر الزيف والظلمة والفراغ. مكان يفخر بهم أبناء بارين، وزمان يتوسل أفعالهم لينال شرف الأبدية وتاج الخلود.

   «أول النهار» الرواية ـ الحلم!!

   ويصعب كثيرا قمع الحلم، المطل بذبذباته، ونسائمه البحرية عبر شرفات زمن، لا يصلها الصدأ والرطوبة وأفاعي النسيان.. الزمن ـ الحلم ـ الإنسان بكل تلقائيته، وهو يجسد الكبرياء، يفخر بطعم حليب الأرض، ويتقيأ لحظات الظلم والعبودية الزائلة لا محالة.. والنهار ـ الحلم المفضض بزمرد حكايا وأقاصيص إنسانه!!

   «إن أهم نقطة على الإطلاق هي الحكاية» ـ هنري جيمس!!

   وهي حكاية (عمران) وقلق الوجود القاتل، تؤججه نبوءات (الغجرية) في أن يعيش: لا أحد، وحيدا، بلا ابن ولا سلالة، ضحية كارثة مشؤومة تحل كل خمسين عاما بالعائلة، ولهذا ينظر إلى القادم وغيره ـ ممن سيولدون ـ سليل عائلة مشؤومة، أهو هذيان (الغجرية) أم هو تداعيات وباء (الطاعون)؟ أم كوارث فيضان النيل؟ أم.. أم؟؟

   «قالت لها الغجرية إن هذا الولد، وأشارت إلى عمران، سيكبر وحيدا، ولن يعيش له ولدان معا» ـ الرواية ص 14.

   وهي حكاية (حليمة ـ الأم) الأرملة بقانون زمن جاحد، وهي تعيش صراعا أزليا مع الزمن، تذوب ثلوج قسوته بعسل روح التصالح، وهي تعرف صعوبة هزيمته، وتدرك أيضا ضعفه أنه (ليس له ذاكرة) ـ كما يقول مالك حداد.. ولكن منجم عاطفتها وإحساسها بجمال الآتي، يضفي على عمرها عمرا مشاغبا: «ويضحك معها مؤكدا، أنها ولدت في سن الخمسين ولن تتجاوزها» ـ ص 13.

   ومن سياط تكهنات (الغجرية) إلى ظلم (الباشا) وأتباعه من لصوص الزمن التاريخيين، إلى (الطاعون) المرض (حالة الخيانة)، ونجاة من بقي من العائلة هو لحظة انتصار بطعم الهزيمة: (عمران، حليمة، مبروك، هوجاسيان وابنته هند)، ونجاة هؤلاء من الطاعون لا يعني أن الحياة حفلت بالأمان، والعيش الرغيد، فهناك من قابلهم في أقصى المدينة، وهو ينصحهم بالهروب من فيضان النيل، فقد أغرق قرى بأكملها تماما، آخرها قرية (أوزير).. لتبدأ في (أول النهار) حكاية الحكاية!!

   «من بين كل الشخصيات التي يصنعها الكاتب نفسه، هناك دائما شخصية أعلى من الأخريات» ـ مويان!!

   (الحاج عمران) نبض كل سطر وجملة في الرواية، وهو شخصية مرسومة بريشة الحلم والحقيقة معا، وعلى لسان الواقع والخيال، والبورتريه الأصدق والأمثل له، هو بزلال الأحاسيس والمشاعر، رجل متنوع من دون ملل ينم عن شخصيته، ويظهر على ملامحه، طيب تارة، ليشمل الكل في سماحته وكرمه، وقاس تارة أخرى، من دون أن يؤذي أحدا، أو يضرب من يخطيء في حقه حتى بوردة، أو يجرح أحدا بتحية فاترة، وهو بين الجدية واللامبالاة، وبين الانعتاق والتزمت، وبين الإيمان وسؤال الوجود المحير، هو مالك المكان وسيده، صوته بإيقاع حنون، وهو إيعاز فوري لأشياء معطلة المفاصل، وهو (الإنسان مقياس الحقيقة) ـ كما يقول السفسطائي بروتوجراس!!

   «وصحا الحاج عمران مع مداعبة أول شعاع لعينيه على المصطبة، كان مغتما، لأنه وهب العبد حريته، في لحظة سكر، وهو يعرف أن مثل هذا الوعد لا يمكن التراجع عنه» ـ ص 30.

   ولأن «الرواية تعبر عن أصوات اجتماعية مختلفة» ـ كما يقول باختين، وأن أداتها الأمثل «التخيل صوت الجرأة»»، وهو إحدى وسائل التعبير لدى الكاتب الماهر، الرابض في تربة نصه، بوابل أمطار الروح المبدعة، جعل من حكاية (هند) وأبيها (هوجاسيان) حكايات، بأبجدية تكحل حبرها بنيران بركان ثائر، فجاءت حروفها وعباراتها وجملها رشيقة، تلقائية، تعلو بعبقرية بساطتها المنداة بعطر السرد المثير، وعبر (فانتازيا) رائعة، تخللت من خلال مايكرسكوب عين الكاتب، كل تفاصيل حياة (هند) التي فازت بشرف التسمية على لسان بطل الرواية الأوحد (الحاج عمران)، وفاز أبوها (هوجاسيان) بالحرية، وكان الفوز الأكبر للفتى الظامئ لحياة جديدة في سرير أنثى، عطرها وحبها (عبادة تطهر النفس) ـ حسب تعبير هرمان هسه.. والتي لم تكن غير (هند)، وقد وهبها (الحب) و(الرغبة) ـ سجن الجسد، وحريته أيضا:

   (لمس مبروك في قلبها طيبة عميقة، لا تخفيها قسوة مؤقتة، وتناول يديها مقبلا، وطلب أن ترجو أباه، ولم تكن حليمة مقتنعة تماما:

   ـ تعجبك هند؟

   ـ نفسي!! ـ ص 47.

   (مبروك) بين أحزان الماضي وتداعياته، وحراب الحاضر، وعبر أسلوب التداعي ـ الفلاش باك، واسترجاع ذاكرة ملح، يسطع الماضي الجارح بآلام بلا نهاية، ويبدو الحاضر أكثر قلقا وحيرة، وتساؤلا مرا: مرض، وطوفان، وموت قاس، وانكسار روحي، وأمل نحيل كصلاة كسول.. (مبروك) ونزيف النفس الجريحة، حديث الأمس الموجع، غياب (الأم)، وانشغاله عن أختيه، والحاضر المقلق (هند) وسذاجتها، وتلقائيتها الغبية، المثيرة لأسئلة عمياء، وحالة فوران روحي، تسمو على تثاؤب بركان، ومزاح سيل:

   (في تفكيره العميق، كانت عضلات وجهه تستجيب لانفعالاته، وهو ينتقم لكل شيء، لأم ماتت بعد ولادة ابنتها ولم ترها هند، وأم راحت في فيضان ابتلع قرية، ولحياة لا يدري لماذا يحرم منها أحبة، ومن موت يرفض فكرة أن يمسه) ـ ص 56.

   «الموت هو أخونا الذكي الطيب الذي يعرف الساعة المناسبة، والذي علينا أن ننتظره آمنين مطمئنين» ـ هرمان هسه / رواية: بيتر كامتنسند ـ ص 124.

   الموت أقسى غياب في سجلات الوقت وإنسكلوبيديا الحياة والخلق!!

   وهو رديف الحياة، و(ليس هدفها)، كما يرى ـ بكل تشاؤم ـ فرويد.. وهو موت (مبروك) وقد قض مضجع (الحاج عمران) و(هند)، ولون حياتهما بألوان قاتمة، لتأخذ شكلا آخر يرسم في كتاب الألم والذكرى بحروف كبيرة، بينما يأخذ الموت (مذاق التدين) حين يضحى انتقاما وعقابا من (هند)، وحرق كل أوراق تلقائيتها المحببة لدى (مبروك)، ليصبح يقينا، و(لا يقين في الحياة إلا الموت) ـ ص 62.

   «الرواية تعكس ولا تقلد» ـ جورج لوكاتش!!

   ولأن مهارة الروائي تتجسد في سرد (يتمتع بشخصيات مختلفة، مرسومة بشكل جيد بصفاتها الخاصة) ـ كما يعبر مويان، فإن (هند) بكل ما ساد في حياتها من حزن وبلاء، تعالج قسوة (الحاج عمران) بجرح غائر نازف على مدى الأيام، وهو يتهمها، ويراها السبب في غياب وموت (مبروك) ولده الحبيب، العريس لليلة واحدة، ومن اختاره الموت بهيئة امرأة جنية ـ بهرها جماله ـ لليال قادمة، ولم يبق لـ(هند) إلا عطر الذكرى.. ذكرى الحبيب (مبروك) التي تظل تربك بارومتر العلاقة بينها وبين (الحاج عمران)، لتظل بين مد وجزر، تارة هي المذنبة والسبب في رحيل ولده، وتارة أخرى هي الحلقة الأضعف والأكثر غلبا، لتأخذ العلاقة معها شكلا آخر بقدوم (ولي العهد) الذي سيحمل اسم أبيه (مبروك)، واسم (الحاج عمران) وامتداده الطبيعي، ليصبح الموت بفلسفة الحياة والوجود (ليس فقدانا، بل ترجمة للروح إلى شكل جديد) ـ كما يرى الشاعر البريطاني جون دن.

   (وعادت إلى الرجل حيوية الشباب، يصحو في الفجر، ويطمئن على هند، بالوقوف صامتا أمام غرفتها، فإذا سمع همهمة، ناداها بصوت خفيض، ثم يطرق الباب، ويسألها إن كانت تريد شيئا، قبل أن يجهز له هوجاسيان الركوبة، ليبدأ يوما من الإشراف على شؤون البلد) ـ ص 78.

   ووفقا للذة النص، ونبيذ الخيال، عبر لغة الكاتب، وسكنه البساطة المحسوبة والدقيقة، فإن الخوف أول أبجدية للموت، وهو خوف (حليمة) من لعنة من يرى (هند) عارية الذي لا يكون إلا الهلاك والموت، وبين صرخات (هند) لحظة المخاض، وانتظار (الحاج عمران) لحفيده، عبر التكنيك الروائي المتقن الذي فاض بإيقاعات درامية شعرية صاخبة، تراوحت بين الفرح والحزن، وبين الأمان والخوف، وبين الموت والحياة، ولأن الموت شيء مفزع، فإن الفرح بداية الرعب، وبولادة (الحفيد) انتصر الفرح والأمان والحياة معا، فـ(الحفيد) الذي ينتظره الجد (الحاج عمران) بصبر، وتمرين فرح صوفي أصبح (حفيدين) وهما (عامر وسالم)، ولدان توأمان دفعة واحدة، ينشدان بقدومهما البهيج عمرا مديدا للحاج عمران، وربما زوال وسواس (اللعنة) المزمن من رأس (حليمة): (وهديتك للعيال رقصة في الفرح، تتحسر عليها غوازي سنباط) ـ ص 96.

   «إن الخطاب الروائي تعبير غير مباشر عن الصراعات الاجتماعية في أي مجتمع» ـ جورج لوكاتش!!

   هو تعبير جمالي، لغة متقنة، والروائي ينقب، ويتخيل، ويتذوق، ويرى في الآن!! ليصبح السرد (انعكاسا للواقع)، صورته الأمثل، ولكن بكاميرا فنان وكاتب ساحر، يشتغل على نص (كون مفتوح) بكل المقاييس، تفيض ريشة أصابعه بصنع بورتريهات متقنة، معبرة، لشخصيات تبدو (سينمائية) محضة، مثل شخصية (القهوجي) زائغ العين حتى على ظل وطيف أنثى، وشخصية (خليل الطوبجي) الذي وحسب ألوان البورتريه فهو ظل رجل، ولكن بأعضاء تناسلية مستيقظة، وغريزة فائرة كأحشاء بركان، فامتلاك (جارية) أحب إليه من ولده (مروان) الذي رهنه، ومن فقدان كرامته، وهو مثقل بالديون، وشتائم الحياة، ويظهر بين الحين والآخر شخصية كاريكاتيرية مدعاة للحزن والرثاء، وعاش (الطوبجي) موتين قاسيين، (الموت المعنوي) وهوالذليل المهان في الأسرة والأهل والبلد، و(الموت المادي) استراحته الأخيرة من مرض مزمن، وحياة لا تشبه إلا الموت، وهو رفيقه الأبدي، حين تعثر زورق التوبة في بحار ذنوب بلا آخر:

   (أشك فيك، والله يا طوبجي، تكسفنا مع الجارية، وأنت غرقان في الديون..

   فأطلق ضحكة واثقة:

   ـ آه، لو جربت، ياسي الحاج جارية رومية!) ـ ص 99.

   . «وطارده وسواس الموت، ظانا أن الملاك لاحق الشاب، وأطفأ مصابيح أيامه الآتية». الرواية ـ ص 132.

   عائلة (الحاج عمران) ولحظة اختبار حياتي ملح!!

   فالحفيدان القادمان ببشائر صباح آت (عامر) و(سالم) ولدا الغائب (مبروك) قد كبرا على نيران صبر العائلة، وبلغا سن الزواج، (عامر) الذي تميز بالقوة والذكاء والحذق وخفة الظل والشراسة، و(سالم) عنوان الهدوء والوداعة، والجد (الحاج عمران) وصحيفة أعماله اليومية التعلق حتى الجنون بالحفيدين، بل بظلهما الذي يعني له الحياة، (عامر) الذي ينصب شباكا بدت واهية لابنة (دوما) الأجنبي المسيحي، و(سالم) وهو المغرم حتى الاحتراق بخيال وطيف (مريم بنت حسن الزيات)، وعبر استدعاء الروائي بذكاء للموروث فإن (سالم) ينطق بما هو بعد الكلام: (لو سورة مريم تأتي لدار عمران) ـ ص 128.. و(حليمة) وبإيقاع طبقي صارخ، تقلل من شخص (الزيات): (الذي لم يحلم يوما بمصاهرة أكبر رأس في أوزير) ـ ص 131.. و(الحاج عمران) ورأس كخلية نحل، نهب وساوس الماضي، وهي تطيل ليله الأوزيري، وتقض مضجعه، مما يحل بأقرب الحفيدين إلى قلبه (عامر) من ناحية (عزوفه عن الزواج)، ومن ناحية أخرى شبح الموت ـ اللعنة الذي تربص وخطف أباه، وهو في زهرة الشباب، وعطر التفجر والفتوة: (وأحزنه العزوف المفاجيء لحفيده عن الزواج، بعد رفض رينيه دوما، واكتشف أن أحدا لم يبلغ عامر هذا الرفض، وطارده وسواس الموت، ظانا أن الملاك لاحق الشاب، وأطفأ مصابيح أيامه الآتية) ـ ص 132.

   «كل سلطة مكروهة» ـ أوسكار وايلد!!

   ولأن السلطة مصدر الشر، فإن (أول النهار) وثيقة إدانة بحروف بركانية للسلطة بامتياز!

   فالظلم والقهر والامتهان والاستغلال واللصوصية، هي صفات رجال (الباشا)، وعلى رأسهم (الخولي) الذي امتهن الفلاحين والعبيد، وقد ضاقوا بمطالبه وإيعازاته ونفوذه القسري، وشعورهم دوما، أنهم فاقدو حريتهم، رغم طاعتهم وما قدموه له، وكانت النتيجة أنه نكث العهد و(أبقوهم في قيود العبودية) ـ ص134 . لكن الظلم والعسف والاستغلال بلا حدود، دفع هؤلاء الذين طعنوا في قلب إنسانيتهم، وحق وجودهم، بفقدانهم حريته، إلى اللجوء لبيت (الحاج عمران)، وهو رغم وهن صحته، رأى أن لجوء هؤلاء المقهورين والمستضعفين ما يقويه ويصلب طوله، ولم يكن أمام (شيخ البلد) ورجال (الباشا) إلا التفكير في استمالة (الحاج عمران) حتى بـلرشوة وهيهات!! فهو الرجل الأصيل الذي مثله لا يمكن أن يخذل هؤلاء، أو ينحاز إلى جانب الظلمة، وهو يعرف أن (العدالة عرجاء، لكنها تصل) ـ كما يقول ماركيز.. فقابل أولئك الظالمين بالسخرية، كوسيلة مقاومة نافذة، من (الخولي) ومن ورائه من رجال (الباشا) حتى ظنوا أنه (يتعمد تزويج الحفيد في هذا الوقت بالذات تحديا لهم) ـ ص 137.. ورسالته الموجعة لـلباشا أنه أثبت له (أن رجاله غير جديرين بثقة أوزير)، ولم يغب عن ذهن (الحاج عمران) وفطنته أن هؤلاء الأشرار غادرون، وأنهم سوف يرتبون للانتقام منه، وكانت الصورة واضحة له، أن حفيده (سالم) هو المستهدف، وهم يتحدثون عن (ريش لا بد أن ينتف) ـ ص 138، والحديث عن (ديك رومي) الذي لا يعنون به غير حفيده (سالم). وبين الفرح والحزن، والحياة والموت، ترتفع رايات الانتقام، ليشيع الظلم والطغيان إلى مثواه الأخير، بعودة (مروان) ابن (خليل الطوبجي) لوالدته، حين كانت المؤامرة تحاك ضد أخيه (صفوان)، بل قتله، وهو يقطع عهدا ناريا لوالدته بـ(الفرجة على جثثهم جميعا القتلة والشهود) ـ ص 141.. لكن المشاركة الجماعية بفرح الحفيد (سالم) لم تطفيء نيران غضب (الحاج عمران) ولا (مروان) ووالدته، وجثة (صفوان) تنتظر الدفن، قبل أن يكون الثار له مشهودا في تاريخ (أوزير)، ولم يثن (مروان) عن عزمه شيئا، وكانت خطته مدروسة لقتل (شيخ البلد) و(الشاهد) من دون أي حساب لوالي مصر المحروسة (أبو الذهب) ولا للمماليك، وهو يعرف أنه سيصبح منبوذا، ويطارد هو وأمه كقاطع طريق: (وربما يقرر المماليك، بعد أن يغتموا على قتل السادة في أوزير، على يدي مروان، تشهيل تجريدة لتدمير الزرع، وإحراق القرية كلها، وحدثته نفسه أن شيخ سمنود سيتخلى عنه، وربما تؤخذ الأم رهينة إلى أن يسلم نفسه) ـ ص 150.

   ولأن (واجب الشخصية في الرواية أن تحيا) ـ بتعبير د.ه. لورنس، فإن الشخصية الرئيسة (الحاج عمران) حياة صاخبة، وهو يحفر على جدران (أوزير) جدارية منجزه الإنساني، وانتمائه الصادق الفاعل لإنسانها، وهو يعيد زهرة الأمل، بوابل مطر مداهم، لحقول الفلاحين التي غادرتها الشمس مرغمة، بثقيل غيوم (الباشا) السوداء ورجاله الذين قسوا على هؤلاء، وهو يعيد إليهم أراضيهم وحقوقه كذلك (يقسم عليهم أملاك سادتهم).

   ولأننا (ليس باستطاعتنا أن نكون أبطالا وقدسين في آن) ـ كما يقول مالك حداد، فإن الحفيد الأكبر (عامر)، وهو يبحث عن ثأر أكيد لأخيه، يقع مغدورا في يد (الجلاب)، وصراعه مع هذا الظالم، وغيابه أقلق (الحاج عمران) و(حليمة)، ودفع أمه (هند) إلى إرغام أخيه (سالم)، وهو في صباحية فرحه للخروج والبحث عنه، ينتهي صراع الثأر هذا بجرح (سالم) جرحا مميتا، وأسر (الجلاب) وضربه حتى الموت، ليلقى نهايته المستحقة، ومهما كان (الموت وحده القناعة الخالصة)، لكنه يثير في روح (عامر) الغضب، ويوقظ الوساوس في عقل (حليمة) التي لا تفارقها (لعنة) الموت، ويشعل نيران الكراهية من جديد في (الحاج عمران) تجاه (هند)، وهو يحملها ذنب موت (سالم)، حين دفعت به للخروج والبحث عن أخيه الذي خلف موته جنونا في العائلة مجتمعة، فأصبح كل منهم يهذي بكلمات مشوشة، وتصدر منه أفعال تثير دهشة واستغراب الآخرين: (قسوة الحبيب صعبة، الطيب حافظ قرآن ربنا مات، غرق في دمه، وأخوه الشقي أتجنن، وأمه خف عقلها من زمان) ـ ص 172.

   الموت المنتصر الوحيد في النهاية، وهو السلطة التي لا تزول ممالكها، تغير في تضاريس الأرض، تلون الزمان، وتربك خطى الخلق والعباد.. نعم!! (شيء مفزع الموت، ذلك المغتصب) ـ بتعبير آن إنرايت.. (عامر) تحت سياط موت من نوع آخر، وهو الشجاع وعنوان القوة في (أوزير)، يذهب موت أخيه (سالم) بعقله، ويعبث في عشب جسده النضر!.. (الحاج عمران) يشعر بجرح وألم بليغ، فسنوات عمره تنفرط كحبات المسبحة القديمة، وهو في شرود ذهني مميت، وقلق وجود مضن، بين البحث عن الحفيد (عامر) وهو في اللامكان، والحسرة على الحفيد (سالم) وهو في أمانة من خلقه، وقد سرقته أحوال الحياة من أحضان عائلة (الحاج عمران)، وقد كان (سالم) عطرها الذي لا ينفد، والأمل الأخضر حتى انتهاء الزمان: (ثم تأمل القهوجي الحاج، ورآه قد اكتهل، وكاد يسأل رواد القهوة عن سنوات أضافت، في غفلة من الزمن إلى وجهه خطوطا، تؤرخ لعمر من الشقاء والفراق) ـ ص 182.

   الرحلة المكوكية التي يقوم بها (على الله القهوجي)، بحثا عن الحفيد الغائب (عامر)، كانت بأوامر وإيعاز من (الحاج عمران)، حيث كان (القهوجي) فيها مخيرا بين الحياة والموت، بين العودة بالحفيد، فيكسب الحياة والرضى، أو الفشل في العثور عليه، فيصبح مصيره الغياب والابتعاد عن (أوزير) إلى الأبد، وربما الموت!! وقد كان إصرار (القهوجي) كبيرا في العثور على (عامر)، والعودة به حتى في الحلم.. ولم يكن بطلا، بل البطل هو المصادفة وحدها! ومفارقات الحياة، وقسوتها، وخيانة الزمان جعلت من (عامر) القوي الشرس، ومن يسيل لعاب النساء عليه لجماله، أن ينتهي إلى (شيخ).. وقد دلت عليه وفضحت هويته للقهوجي رعشته، وذهوله، ودموعه حين يذكر اسم أخيه، وجده، وأمه.. وبين ذهول (القهوجي) من هذه المصادفة الغريبة، تفيض ذكريات (عامر) وهو يؤرخ لكل لحظة يرى فيها الموت، الذي ظل يخافه، وينتظره كزائر ثقيل الظل: (وأوضح عامر أنه عاش حياة دونها جنة الله في سمائه، يخطط ليومه وساعته، ولا يفكر فيما وراء ذلك) ـ ص 202.

   ولأن الشهوة (أعلى سلطة في الجسد)، وأن (الرغبة هي الشيطان) ـ كما يقول أندريه مورو، فإن (عامر) (الشيخ) الافتراضي تعيد له (الشهوة) الذاكرة، ويقطف زهور العقل من جديد، ولكن على إيقاع خطى امرأة ـ فتنة الكون، وعنوان المكان، جعلت منه (وليا) و(إنسانا) في آن، لتضفي عليه اللذة والحب قوة بلا حدود.. أليس الحب (وجد ليبين لنا مدى قوتنا على المعاناة والاحتمال) ـ كما يقول هرمان هسه؟؟: (ومن دفء المداعبة، تدفقت فيه الدماء، رغم حاجته إلى النوم، وكنس رهزها ونخيرها كل ما تبقى في ذاكرته من فنون سابقاتها اللاتي عرفهن وهو عاقل، حتى نسي الجوع والتعب في خيمة اللذة الأولى) ـ ص 204.

   هل انتصر الزمن ـ وهو بلا قلب ولا ذاكرة ـ لعامر، ليصبح (الشيخ) و(الولي) صاحب جاه، وأراض، وأطيان وهو ينيب (عددا من رجاله، لإدارة أملاكه المتفرقة في ولاية الغربية)، ولا يقلقه إلا ما سمعه من أخبار الأهل، وأشعره بالحزن لعودة عقله إليه، وكأن واقعه لن يعاش، ولن يقابل إلا بمس من الجنون، وقد يحتاج إليه كل إنسان صار عدوه الزمن وغريمه الحياة!! أهي نيران الذكرى التي رتبت مراسم عودة (عامر) إلى (أوزير)؟ أم أن الجد (عمران) في خطر؟ أم أنها (لعنة) الموت التي لا تفارق أطيافها (حليمة).. أم ماذا!؟: (قلبي يقول لي إن جدي في خطر) ـ ص 210.

 ولم تكن عودة (عامر) ميمونة، لينال شرف احتفاء المكان به، بل كانت حيرة مزمنة، تقض مضجعه، بين ما يحصل للأسرة من مآس وأحزان وكوارث متلاحقة، وما تبلى به بلدته (أوزير)، بما يفعله اللصوص الغربيون بقيادة (فوجير) من عبث، وقتل، وتعذيب، ونهب للأموال والثروات: (حكايات الجد، عن قرية نهبت وانتهكت، أطارت النوم من عيني الحفيد) ـ ص 114.

   يقول شكسبير في السوناتة الأولى:

   «من أجمل المخلوقات نرغب في المزيد، ربما لهذا لا تموت وردة الجمال»!!

   و(صفية) بنت (الحلبي) هي الجمال الذي ليس ملكا لنفسه، هي عودة الحب الذي يفيض عطره في تفاصيل روح (عامر)، ويجدد نبضات قلبه، كما يفيض الماء، ليجدد الحياة ونسيج الذاكرة في تربة منسية، وهي عودة إليه بترجمة جديدة، حيث اللمسات الإنسانية، والثقة بالنفس، وقدح جمر الإرادة فيه، وقد جعل صوت (صفية) وحضورها، وموكب جمالها البذخ، من غيابه حضورا صاخبا.. لحظة حب أخرى! وما الحياة إلا لحظات حب وجمال ـ الهبة التي على مخلوقات الأرض أن تتقاسمه بكل رقة وعدل.. تعيد له العمر من الأول، وتنشر في جسده وروحه معا شبابا وفتوة وقوة، مصدرها اللذة، وما الجسد هذا (الاختراع المقدس) ـ كما تقول أملي نوتومب، إلا شهوة ورغبة مجسدة: (احتماؤها بعامر، وهي ترفع الصديري وتدفن وجهها في بطنه، نفض عنه خمسا وعشرين سنة، وتناول وجهها بيديه، ولمح دموعا حقيقية، جففها بشفتيه، فعاجلته صفية بقبلة في فمه، فانحنى وحملها بين ذراعيه، وأغمضت عينيها) ـ ص 219.

   ومن ربيع الحب والجمال إلى صيف الخيانة والغدر، وحرب الحياة الدائمة، يمكث (عامر) في (أوزير) بعد خمسة وعشرين عاما من الغياب المضني، وهو زوج لليلة واحدة، في أحضان الجمال والمتعة (صفية)، وهو المقاتل ومن يغامر بجرأة في بحار الأهوال والصعاب، متحديا (الفرنسيس) الذين عاثوا في الديار فسادا، وسرقوا، وصادروا أموال وحلال وأطيان الناس، وهم ماضون في طغيانهم، سلاحهم الوقت الغادر، للسيطرة على (سمنود) و(أوزير) و(طنطا) وبقية المدن المصرية.. ويقع (عامر) في الأسر، من دون أن يتعرف الفرنسيس على شخصيته، ولكن جرأته، وشجاعته، وانتماءه لأرضه، كانت ترسم ملامحه، وتثير الشكوك حول شخصه، ولكن من أوقف سيل هذه الشكوك باليقين، خيانة (القهوجي) الطامع الذي دل عليه، مقابل (حصان)، إثرها سقط (القهوجي) من نظر (الحاج عمران)، وبيت للانتقام منه، وهو يجهز له أقسى عقوبة جزاء خيانته:

   ( ـ أنكره الرجال، وتطوعت يا بهيم بالوشاية!

   ـ والثمن حصان؟ قيمة عامر حصان يا حلوف!

   حدجه الحاج بنظرة ازدراء، قائلا إن الخائن لا يؤتمن على رسالة، ولا يليق به دور الشهداء، أمر بحبسه في الزريبة، بعد توثيق قدميه، إلى أن يأتي كبير البلد، وينظر في أمره) ـ ص 258.

   إن اعتذار (القهوجي) لا يغسل إسفلت العار الذي غطى وجهه، و(عامر) وهو يدين هذا الخائن، يرسم له بورتريها بإسفلت جبنه وضعفه وطمعه، ليبدو مركب اعتذاره بعيدا واهيا للوصول إلى شاطيء المغفرة: (خنقني غباؤه وجبنه البادي في عينيه) ـ ص 260.. ليبدو(القهوجي) في صورة كاريكاتيرية، وهو في أثواب الذل والجبن والضعف، وانعدام الشخصية، وما يفيض من عينيه من دموع التخاذل والانكسار والندم، يزيل دخان هذه الخيانة والخسة، عواصف الشجاعة والجرأة الفائقة التي عصف بها جسد (الحاج عمران) وهو يواجه الغازي والمحتل، برسالة حروفها من بركان اللحظة، إلى قائد الفرنسيس، تذكر برسالة هارون الرشيد إلى (كلب الروم):

   (اكتب، قل له: يا حمار!

   ـ لا يصح يا سيدي.

   ـ إنما يصح أن تعتدوا علينا!) ـ ص 269.

   وبعد أن دقت أجراس الهدنة بينهم وبين (الفرنسيس) الغزاة، وعلا صداها على إيقاع كؤوس الخمر، وتم إطلاق سراح الأسرى بالتبادل، وعودة (عامر) إلى أحضان (عمران) و(صفية)   معا، تجد (أوزير) نفسها على موعد حاسم قاتل مع (الطاعون) مرة أخرى، ويخيم شبح الموت، وهو بالمرصاد لهم.. يسعى (القهوجي) الذي وصم بالخيانة إلى أن يكفر عن ذنبه الأعظم بحفر المزيد من القبور ودفن الموتى ضحايا الطاعون.

   تضيف (صفية) غيوما إلى سماء (أوزير)، أمطارها توقظ نباتا بين النضارة والذبول، ووقتها بين الفرح والبكاء، وهي تضع (ولدين) لعامر، وترحل عن الدنيا بسبب صعوبة الولادة، ولم يغير الولدان شيئا في حياة أبيهما، بل عدهما (قاتلين) لأمهما.. وموت (صفية) يعيد إلى الأذهان لحظات الشؤم ولعنة الموت المغتصب، والرفيق الأبدي لعائلة (الحاج عمران).. وعامر في لحظة حساب مع النفس، وقراءة ماضيه وحاضره، مصاحبة للوم يسرق لآليء نومه، ينتهي إلى أن دفء صفية وخمر جمالها، أحب إليه من كنز صدئ، ونور ناحل تقدح به وجنتا الولدين: (زهد عامر في حياته، معرضا عن الطعام، حتى كاد يرمي نفسه في النيل، ليتخلص من عبء انتظار شفائها) ـ ص 281.

   «التعاسة هي ثمن الذكاء» ـ كارلوس فوينتس!!

   تلك هي صورة (عامر) وقد جنى من ذكائه التعاسة، ثمرتها الناضجة اضطراب مضن، وشلل جسدي وفكري معا، وشعور حتى الألم بـ(التقصير في حق ولدين لا ذنب لهما في شيء، وليس من الحكمة أن يعاقبهما، ويتجاهل منحهما اسمين) ـ ص 289.

   ومن رحم (أوزير) يولد (منصور) ابن (القهوجي) لعله يخفف من ذنوب أبيه تجاه عامر كبير (أوزير) ليصبح هذا الـ(منصور) المتحدث الرسمي الموثوق به باسم (عامر)، وهو من يتولى شؤون (أوزير) برضاء وثقة كبيرها، ولم يبق أمام (عامر) بقية من الوقت، وهو يقاوم شبح الموت الذي يطارده، تارة بذهاب العقل، وأخرى بالغياب والأسر، باللذة التي تمنحها له (زهرة) المغربية، التي لم يذق قبلها أبدا، في كل ما مر بحياته من نساء، يضيف إلى هذه اللحظات المخملية من راحة البال، مجيء التوأمين (إدريس ويحيى)، وانتصارهما على الزمن الذي راوغ أباهما، وهما يكبران، بل يتزوجان أيضا، وهديتهما لأبيهما (زهور) الحفيدة.. ولادة حياة جديدة مثمرة قادمة: (كان يتذكر أمه هند، وينتظر رجوعها، ويتثاءب ويخطفه النوم، فيرى من فوق عربة يحرسها عبدان، ابنيه إدريس ويحيى شابين يتزوجان في ليلة واحدة) ـ ص 300.

   «أول النهار» رواية ملحمية.. وهي سيرة غيرية، انصهر في سطورها الخيال والواقع، والحلم والحقيقة، حتى صعب التمييز بينهما، وقد تعدد أبطال وشخوص هذا الواقع، بخطى إيجابية وسلبية معا، لم ينتصر لهم الزمن أبدا، ولكنهم يعيشون بأجساد عاصفة، ورئات من صوان!!

   «أول النهار» الماضي البعيد بطلا!!

   والمكان القديم ـ الجديد أضحى زمانا، نواة التحدي فيه شخوصه، وهم يتناسلون في سرير الشمس، ليبدو التناسل، والحب، والجمال في حياتهم لحظة تفاؤل مستمرة، ومقاومة للموت ـ اللعنة التي تلاحقهم، وهم ينزفون تعلقا بالحياة، لتبدو الرواية لحظة صراع، يمتزج فيها الموت والحياة، الفرح والحزن، القلق والأمان!!

   «أول النهار» فسيفساء إبداعية بكل المقاييس!!

   استلفت الكثير من فنون الحكاية، ومن التاريخ، والموروث، والشعر، وجاءت لفضاء قارئها قطعة موسيقية باهرة، مشاهد لفيلم سينمائي متقن الإخراج، والصورة أكثر دهشة ومتعة، أضفى عليها الحوار بتلقائيته، ومفردته المصرية المحلية المثيرة والمستفزة لذة تعيد تشكيل العاطفة في الروح، وكيمياء الرغبة في الجسد.

   «أول النهار» سرد نثري خرافي، وتعبير جمالي، الأصل فيه الحكاية بلغة مدهشة. لتبدو السيرة الغيرية (أثرا من آثار اللغة)، حيث يتجلى المجرد بصمته وصخبه وجبروته معا، وتصبح اللغة (مفتاح الخطاب الروائي) ـ كما يقول الناقد محمد يوب.. بعبقرية البساطة والوضوح والشفافية العالية، وكأن الكاتب الكبير سعد القرش يقول ـ وهو يستعير رؤى رولان بارت ـ (أستطيع أن أفعل كل شيء بلغتي)، وهو يتأمل الأشياء، وتفاصيل المكان، يعيش حياة شخوصه وأبطاله، كأنه معهم، يربض في إيقاع زمنهم، ليتغلب على الصعاب معهم، وهو ينير لهم ـ ومصباحه الكلمات ـ دهاليز حياتهم، ويؤكد من خلال سرد متقن راق أن الناس (شخوصه وأبطاله) كانوا هكذا في الواقع، حياة تشبه الموت، وموت في الحياة!! وقد تجسدت مهارة الكاتب في طزاجة وجمال التخييل، وبراعة التكنيك وهو الأهم، وجاء الأسلوب بسيطا إيحائيا معبرا، ومؤيدا بدفقات مموسقة من الموروث الشعبي الحكائي والديني والأمثال، ومن (مقبلاته) المفردة المصرية الدارجة الموحية البعيدة عن الابتذال والترهل!!

   «أول النهار» رواية الزمن الذاهب ـ الآتي!!

   الماضي المستمر، حيث يبدو الزمن بطلا، ولا أحد يستطيع أن يهزم الزمن ـ كما تقول مرجريت أتوود.. ولكن يمكن مراوغته وخداعه، وإرباك لحظاته بالخروج من زمنه، بالكلمات، بالخيال، بالأحلام والرؤى. وذلك ما يقرأ في سطور (أول النهار)، وتلك هي اللحظات الحالمة التي أراد الروائي الكبير سعد القرش أن يجدد بها ذاكرتنا، ويخرجنا تماما من مياه النسيان. لتظل«أول النهار»من الأعمال الروائية التي تلتصق بقلبك كما الموسيقا، كما القصيدة المتمردة، وهو يضيف في كل كلمة، وجملة، وسطر شيئا من ذاته!

* «أول النهار» ـ رواية ـ سعد القرش ـ الدار المصرية اللبنانية ط 2 ـ 2011 القاهرة. الرواية الفائزة بالمركز الأول لجائزة الطيب صالح ـ 2011.

ـــــــــــ

* كاتب عراقي

(مجلة “الرواية” القاهرة ـ العدد 17، 2016).

        

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم