أوزير.. الوطن عندما يتشكل.. الوطن حينما ينهار

موقع الكتابة الثقافي writers 92
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قاسم مسعد عليوة

   لا يصح التعامل مع رواية (ليل أوزير) للأديب المتحقق سعد القرش بغير الإشارة إلى سابقتها (أول النهار)، فهما وإنْ انفصلتا ـ رواية واحدة مِن جزءين، ما (ليل أوزير) إلا الجزء الثاني منهما.

   وإن كان القارئ مِن هواة تصنيف الروايات التي يقرؤها، فلسوف يجد صعوبة في تصنيف هذه الرواية، فلربما رأى فيها رواية تاريخية لما تحتشد به مِن وقائع وأمكنة وأسماء حفظتها كتب التاريخ عن الفترة الممتدة مِن الحملة الفرنسية حتى تولى محمد علي باشا حكم مصر؛ لكن الحيرة لن تلبث أنْ تتقحمه فيراجع نفسه ليجد أنه إنما يقف أمام رواية مكان تحتفى بما يتفاعل مع وداخل أمكنة موجودة ـ أو كانت موجودة ـ في بيئات جغرافية بعينها؛ وإذا ما كانت أوزير قرية متخيلة، فإنَّ القرى والمدن المحيطة بها والقريبة منها لاسيما أبوصير بنا وبنا أبوصير وسمنود والمحلة الكبرى وطندتا (طنطا) متعينة الوجود، منذ زمن الرواية وحتى زمن القراءة ـ الزمن الحاضرـ يضاف إليها مصر المحروسة وأراضي الحجاز والشام وبلاد الترك والروم؛ وقد يرى القارئ فيها رواية أجيال، فالشخصيات تحيا وتتناسل وتموت ويتعايش نسلها في وئام وصراع على مدى قرن ونيف؛ وإذا رأى فيها رواية اجتماعية فهو محق لأنها تنسج على منوال الحياة الإنسانية، وعلاقات الوحدات الاجتماعية ببعضها البعض: أسر، جيران، زملاء عمل، ومؤسسات متفاوتة الأحجام والأدوار، عبر ما تم التواضع عليه مِن قيم الدين والعادات والتقاليد والأعراف؛ وهي أيضاً زاخرة بمفردات الثقافة، حتى الرسوم والزخارف والأشعار والحِكَم والمواعظ لها وجود في ثنايا الجزءين مما يزيد مِن اجتماعيتهما. وبارزة هي مواقف التعرض لأساليب الحكم ومواقف المحكومين مِن حكامهم، بما قد يُعد إسقاطاً سياسياً ويُدخلها في زمرة الروايات السياسية؛ وإنْ حَكم عليها القارئ بأنها رواية وجود فلا تثريب عليه، فالرواية مِِن بدايتها إلى نهايتها محكومة بثنائية الحياة والموت، وفيها تتجاور الأساطير والخرافات، فأسرة كبير القرية مُطاردة بلعنة غامضة لا يعرف أحد لها سبباً، وثمة تفاسير تتماحك بالدين وهي في حقيقتها نتاج أصيل للخرافة. وإنْ قفز القارئ بالرواية فوق كل ما سبق واتجه بها ناحية التراث فهو محق، لأنها بجزءيها تتمسك بالأصول والجذور وترنو بتجلة صوب ماضي أوزير المجيد.

   وإذا طمح القارئ إلى تأطيرها وفقاً لما تُمليه مدرسة فنية بعينها، فسيقف إزاءها ذات الموقف، فالرواية بجزءيها رومانتيكية ثورية باعتصام شخصياتها الرئيسة بذواتها في مواجهة ذوات الآخرين، وبما تحمله مِن مبادئ وقيم تجابه بها الشرور المُحْدِقة بأوزير؛ وهي أيضاً رواية طبيعية بالمفهوم الذي روَّج له اميل زولا، فتأثيرات الوراثة والبيئة وقوانين الطبيعة ـ على وجه العموم ـ تركت بصمات واضحة على الشخصيات والأحداث والأجواء التي غلَّفت أرض وسماء أوزير؛ كما أنها رواية أشخاص باهتمامها، ليس فقط بملامح كل شخصية، ولكن بكل ما يَدخل في تكوينها، وبما يصدر عنها مِن تصرفات وأفعال، وما يطرأ عليها مِن استجابات وردود أفعال؛ وأيضاً هي رواية رمزية، فهي محتشدة بالرموز التي تستلزم سبر الغور وتستدعي التأويل. كل هذه الأطر تصلح لـ (أول النهار) و(ليل أوزير)، لكن تبقى الواقعية إطاراً أعم وأشمل يُمكنه أنْ يستوعب كل هذه الأطر، وغيرها، يدعمها الأسلوب الذي كتب به الجزءان وطريقة المعالجة.

   إذن ما على القارئ إلا أنْ يَقبل الرواية ـ بجزءيها ـ بما هي عليه، رواية تستعصي على التصنيف والتأطير أحاديي الاتجاه، وهذه مزيّة في حد ذاتها.

   في يوم حار مِن شهر بؤونة، وبعد طاعون ماحق، أسقط رئيس الملائكة ميخائيل نقطة ماء في نهر النيل ففاض ومحا قرية أوزير بأكملها حتى أصبحت «قبراً باتساع الفراغ»، ولم تُكتب النجاة لغير اثني عشر رجلاً؛ وهلك آل عمران سواه وحليمة مربيته، ومبروك ابنه، وهوجاسيان عبده الأرمني وابنته هند. وتنزل لعنة عرافة غامضة على ابنه مبروك فيسقط ميتاً مِن فوق سطح بمدينة طندتا ليلة دخوله على هند بعدما بذر في رحمها بذرتي عامر وسالم، تحدث هذه الفاجعة في الوقت الذي اعتزم فيه عمران إعادة بناء «أوزير الجديدة بتصميم يقاوم الكارثة»؛ وبالرغم من الجرح الذي أصابه بموت ابنه فإنه يصر على بناء أوزير، ويستعين في بنائها بخبرات البنادقة (أهل البندقية)؛ ويجلب بُنَاتُها ـ الإثنا عشر ناجياً ـ مِن القرى والمدن المجاورة اثنتي عشرة زوجة، وبعزم مِن عمران وصحبه تنمو القرية وهي تناضل قطَّاعي الطُرق والمماليك وبقايا الفرنسيس، وتصبح وطناً لهم ينتمون له وينتمي لهم. وطن مفتوح على العالم في الدائرتين الأضيق والأوسع، ويبدي عمران ـ هذا البَنَّاء الأسطوري ـ تسامحاً مع الأجانب مِن إيطاليين وهنود ومغاربة، وفرنسيس أيضاً ممن ارتضوا العيش في كنف هذا الوطن، بل إنَّ منهم مَن بنى مسجد القرية، والكنيسة والطابونة، ومنهم مَن شارك أيضاً في تشييد أسوار القرية وأبراجها، أو نظَّم شئون الزراعة والري في زمامها. إنه وطن لكل طالب للعيش في أمان وتسامح.

   لكن للزمن تصاريفه، وللعنة العرَّافة حضورها. قُتل سالم في حياة جده وهو ينقذ أخاه عامراً، وأقيم له تمثالٌ بمدخل القرية، ومات غير واحد مِن أسرة عمران؛ ولمَّا ماتت حليمة بعد أنْ خَرِفت، طلب عمران بعدما تخطى مِن السنين مائة الموتَ فمات، لكن بعدما سلَّم عامراً ـ حفيده العائد مِن أسر الفرنسيس ـ فرس كبير البلد، وبهذه الهدية أصبح عامرٌ هو الآمر لوطن يعمَّه الأمان، وتسوده قيم التسامح، لكن ما تلبث الأوضاع أنْ تنقلب في هذا الوطن، فقد انشغل عامرٌ بذاته وانصرف إلى إشباع شهواته.. مواقعة للنساء وتدخين للحشيش.. ولأن صفية ابنة الحلبي أم ولديه يحيى وإدريس ماتت فقد تزوج مِن زهرة المغربية لتربي الولدين، ليأخذ التدين أحدهما أخذاً (يحيى)، ويخرج الثاني مِن أوزير الوطن إلى أوطان أخرى غريبة بعد الوفاة المفاجئة لزوجته (إدريس)، وبسبب قيام منصور القهوجي ابن علي الله القهوجي ـ أحد الوشاة في عهد الجد عمران ـ بالتصدي للأغراب الذين حاولوا اغتيال عامرٍ، وثق به عامرٌ، وبسبب مِن هذه الثقة ما لبثت أمور أوزير أنْ آلتْ إلى منصور.. درجة فدرجة.. ونشأت سلطة أخرى داخل السلطة، وبدأ (ليل أوزير) يدلهم، وأخذ الفساد يستشرى والخراب يعم.

   مات منصور فآلت دولة الجبروت لابنه خليفة الذي تفوق على أبيه في ممارساته الظالمة مستخدماً الدين والخرافة، ومبرراً كل ما ارتكبه مِن مخاز، وما أبهظ به كواهل أهل أوزير، وما ابتكره ـ سيراً على خطى أبيه ـ مِن أساليب للقمع تعتمد القتل الناعم، ووسائل تخويف مِن خطر خارجي غامض ووهمي زعم ـ كما زعم أبوه ـ بأنه يُهدد أوزير الوطن والملاذ؛ ونجح خليفة في عزل كبير البلد عن شئون البلد، وإنْ أبقى عليه رمزاً بلا حول ولا سلطان، وفي نفس الآن عزل القرية ـ أيضاً ـ عما يحيط بها مِن بلاد وأمصار حتى لا يعلم الباشا (محمد علي الكبير) بأمرها فيدخلها رجاله ويزول سلطانه، هذا السلطان الذي تعزز واستقوى باستنفار الفتن والنعرات وتبديد التسامح بين الأديان والأجناس.

   وحدث أن عاد إدريس المسلم المستنير المتصل بأحوال العالم إلى وطنه. عاد مُحَمَّلاً بقيمٍ غير تلك التي خرج بها. قيمٌ حصَّلها بمكوثِه فترةً بالشام وطوافه بما وراءها مِن أصقاع، وتلقيه تعليمه في بلاد الترك ومصاهرته لأسرة رومية؛ عاد حاملاً مشعل الاستنارة، محاولاً حث العقول التي استكانت للضلال على التفكير الرشيد، ومعاوناً الرقاب التي أحناها البطش والاستبداد على الانتصاب والاستطالة. ولمَّا دارت رحى الصراع الطبيعي بينه وبين خليفة، لم يُبد يحيى المتدين تحمساً لأفكار إدريس، على العكس لام أخاه «أول مرة يا إدريس تدخل الجامع تسبب بلبلة؟». ومع أنَّ مجريات الأحداث أوضحت أنَّ إدريس أحفظ مِن يحيى للقرآن، فقد كان إدريس هو الأكثر قناعة بأهمية تثوير الفكر الديني وتغيير خطابه بما يتلاءم والمعارف والقيم التي تموج حول وطنهما المرزأ أوزير، لهذا بدأ سعيه مِن أجل هز الثوابت التي رسخت، والمياه التي أسنت مِن طول الركود. وقد أدى التطرف الذي خنق بهجة الحياة في القرية، إلى دفع الأطفال الذين لم يعيشوا أمجاد وطنهم إلى العبث بتمثال العم سالم ومحاولة هدمه، ومادام صنم سالم ـ كما أصبح يُعرف ـ يستعصي على الهدم، فلا أقل مِن ستره لكي لا يُرى.

   وفي لحظة مِن لحظات احتدام صراع إدريس مع خليفة، فكر الأول في قتل الثاني، لكن عامراً، وقد تخطى التسعين مِن عمره، نصح إدريس ـ هذا الثائر الرومانتيكي ـ إنْ أراد الانتصار على خليفة بأن يُعلِّم الناس ألا يخافوا، وألا يقتصوا مِن الظالم بالدم، وألا ينتظروا معجزة مِن السماء تُغَيِّر ما هم فيه، وحثه على الخروج مِن أوزير هو وأسرته كيما يُبلِّغ الباشا (محمد علي الكبير) بمكان أوزير التي نسيها رجاله، فيقتنع؛ وحين يلتفت إلى وطنه مودعاً، لا يرى في العتمة إلا مصابيح البوابة بنورها الواهن، ورأس تمثال عمه سالم، والدار التي شهدت صباه وشبابه، فيدمع ويغادر، ليقوم أهالي أوزير بثورة غير مكتملة النجاح، على الظالم وأعوانه لكن خليفة وبعضاً مِن رجاله يفلحون في الفرار مِن غضبة الثوار. ويظل عامرٌ الشيخ الطاعن في السن هو وزوجته العجوز في القرية لتهوى كرات النار مِن الأبراج التي كانت تُخزن فيها الأسلحة وتشتعل القرية، فتنظر زهرة إلى عامرِ مِن بين اللهب والدخان لترى رأسه يشق السحاب وتسمعه يسأل ربه: «أكان لا بد أنْ تتطهر أوزير بحريق يأتي على الناس والديار؟». ومع هذا السؤال يبزغ سؤال آخر في ذهن القارئ: (هل خروج إدريس هو خروج مِن أجل العودة لإعادة بعثها مِن جديد؟).

   بتقنية عالية عرض «سعد القرش» في جزءي روايته للكيفية التي ينشأ بها الوطن، والآليات التي تسهم في تشكيله، مثلما عرض لدورات الازدهار والانهيار التي تعترى الحياة داخل هذا الوطن. وإذا كان حب الوطن والتمسك به وافتداؤه مِن الأمور التي يمكن ردُّها إلى استحكام الروح الرومانتيكي بسلوكيات مَن يؤمن بفكرة الوطن ويُقدِّر عِظم الدور الذي يؤديه بتوجيهه لمسارات الحياة، فإنَّ ذات المنطلقات قد تستثمر مِن قبل البعض لتحقيق مصالح شديدة الخصوصية قد تضر بأمور الوطن ومستوطنيه، ولهؤلاء وأولئك وجودهم في كل وطن. وقد أظهر نهار وليل أوزير أنَّ الوطنية الحقة إنما تنبع مِن الإحساس الجماعي بألفة المكان والارتباط الوجداني به، وأنها هي المحرك الأول للأحداث والوقائع كبيرها وصغيرها.

   ومن براعة «سعد القرش» أنَّه قدم لقارئه وطناً اكتملت فيه مقومات الدولة من أرض وحكومة واعتراف؛ الأرض هي الموضع الذي شغلته أوزير مِن جغرافيا دلتا مصر، والحكومة تمثلت في كبير البلد عمران ثم عامر ومَن عاونهما، وأما الاعتراف فمِن القرى والمدن المحيطة ومِن بعض الأجانب. وهي دولة كاملة السلطات والمؤسسات مِن شعبية وتنفيذية وقضائية، شأنها في هذا شأن أي دولة أخرى، وإنْ في هيئة مُصَغَّرة، فالمقهى هو المؤسسة الشعبية التي تُعمل المساءلة وتطلب التشريع وتضغط مِن أجل تحقيقه، ورهط منصور وخليفة مِن بعده، ومِن قبلهما مثَّلَ العبد هوجاسيان ـ بعد تحرره ـ ومعاوني عمران السلطة التنفيذية، أما السلطة القضائية فسيدها إمام الجامع. ونظام الحكم رئاسي، ومقر الرئاسة دار كبير أوزير، فيه استقر عمران وعامرٌ مِن بعده، ومِنه صدرت ـ لفترة ـ أخطر القرارات، وإليه رَنَتْ أبصار الظالمين والمظلومين على السواء.

   وبسبب مِن عيوب هذا النظام ما لبثت الديكتاتورية أنْ أصبحت علامة عليه باستيلاء السلطة التنفيذية ـ كالعادة في النظم الرئاسية ـ على مقدرات الوطن وتسخيرها سائر المؤسسات لخدمتها، وهذا ما فعله منصور ومارسه خليفة ورجالهما، فأغْلِق المقهى، ورُوِّعَت الأسر، ودُجِّنَ رجالُ الدين، واستُغِل حماة الوطن لتمكين الظلاميين مِن السلب والنهب والاكتناز، واستُخدم جهاز إعلام القرية المتمثل في المنادى للتغطية على ما يُرتكب في حق أوزير مِن جرائم.

   قد تحيل المفردات التي شكلت هذا النظام إلى الواقع الراهن الذي تعيشه مصر، لكنها أيضاً تشير إلى ما يقع في البلدان العربية وبلدان العالم الثالث في الدوائر الأوسع فالأوسع، فالغايات لا تختلف إلا في مدى القرب أو البعد وأنواع وكفاءات الوسائل. هي إذن رواية تتعامل مع السياسية بغير ما رفع لشعار أو فتح لبوق؛ لكنها تُظلَم إنْ صُنفت على أنها رواية سياسية محضة.

   والرمز مبثوث في جزءي الرواية. منذ البداية يحيل الاسم (أوزير) إلى مزيج مِن المعاني الأسطورية والدينية الضاربة في عمق التاريخ المصري، ومع أنَّ أوزير ـ هذه القرية المتخيلة ـ تقع على مقربة مِن قريتي أبوصير بنا وبنا أبوصير الموطن الحقيقي للعبادة الأوزيرية في دلتا مصر، ومع أنَّ أوزير أقيمت على ضفة النيل الغربية حيث الموت والبعث وفقاً للعقيدة الأوزيرية، وقيام بنية الرواية على فكرة البعث بعد الموت (بعث القرية التي طُمرت)، فإنَّ الرواية ليست رواية موت وبعث أوزيريين خالصين، وإنما هي رواية مواجهة للظلم والقهر والاستبداد والفساد؛ وأسماء الأشخاص أسماء رامزة: عمران وعامر، في مقابل منصور وخليفة، فالأولان يرمزان لمعاني التعمير: بناءً، وغرساً ونسلاً، والآخران يرمزان إلى الانتصار السلطوي ـ وإنْ تأسس على ظلم ـ والخلافة في السلطة؛ وقد يكون للرمزية وجودها بتماس أسماء مثل: حليمة وإدريس ويحيى، والمدلولات ذات الطابع الديني، وإنْ كان مساً طفيفاً، لاسيما فيما يتعلق بإدريس النبي الذي يُنسب إلى مصر كما جاء في الرواية، ويقول البعض ـ خارج النص ـ إنه أوزيريس ذاته. وفي ذات السياق، فإنَّ تحديد عدد الناجين مِن أوزير الهالكة في بداية الرواية، أولئك الذين بنوا الوطن الجديد باثني عشر فرداً، يستدعى الأسباط الاثني عشر المعروفين في العقيدة الدينية.

   وقد تؤخذ نبوءة العرَّافة باللعنة التي تحل على آل عمران، وأوزير بالتالي، كل خمسين سنة، على أنها حيلة فنية تحمل معنى الأزلية، وهي بالفعل كذلك، لكنها حيلة رامزة أيضاً، وإنْ لم يُدرِك الكاتب هذا، فهي متصلة بالواقع وليس بالقدر، وقد تصح إحالة دورية حلول هذه اللعنة بدورية حلول الأزمة الاقتصادية العالمية التي تحل أيضاً كل خمسين سنة، وكلتاهما تُحدث نكبات بالمجتمع المحيط.

   وثمة رمز مُسْتَشَّف لعله مِن أهم رموز الرواية بجزءيها، رمز تتلبسه الرواية كلها دونما تشكل في هيئة كلمةٍ أو حرفٍ أو صورة، أو أية هيئة معروفة يتشكل الرمز بها أو فيها أو مِن خلالها، فهو رمزٌ غير مرئي ووجوده خفي، لتغلغله في جينات وكرموزومات ودماء أهل أوزير وعدد مِن الشخصيات الرئيسة في الرواية، إنه الرمز الذي يدحض مقولة النقاء العِرقي، وينفي لزومية رفض الآخر والعيش في جيتو عنصري مغلق؛ فالإثنا عشر ناجياً تزوجوا مِن اثنتي عشرة عروساً مِن خارج أوزير، ومِن ثم امتزجت في دماء مَن جاءوا مِن أصلابهم، الذين هم قَوَامُ الوطن الجديد، الدماء الأوزيرية (دماء مَن سكنوها قبل الفيضان) بالدماء غير الأوزيرية (دماء الأمهات المستجلَبات مِن الأوطان المجاورة)، ومبروك بن عمران تزوج مِن هند بنت هوجاسيان الأرمني، فأولدها سالماً وعامراً؛ وعامرٌ المختلطة بدمائه الدماء الأرمنية، تزوج مِن صفية الحلبية (الشام العربي) ثم مِن زهرة المغربية (المغرب العربي)، وأولد الأولى إدريس ويحيى، وأولد الثانية عائشة، وإدريس تزوج مِن رومية. وأوزير نفسها وطن غير عنصري، وغير منغلق على ذاته؛ وإنْ أقام سكانه له أسواراً فهي أسوار الحماية مِن الأخطار، وليست أسوار الحماية مِن ثقافات الغير؛ ففيه عاش رينيه وموران (فرنسيان)، وكارلو وجوليانو وجوليا مِن البنادقة (إيطاليون)، واستقبل أيضاً الهنود والغجر، أي أنه كان وطناً مفتوحاً للتبادل الثقافي والتجاري للبشر كافة، حتى إنِّ قلب عامرٍ هفا في فترة مِن عمره ناحية ابنة رينيه الفرنسي وكاد يهيم بها حباً لولا أنه لم يجد فيها ما يبتغيه.

   والقهر الذي لازم أوزير أربعين سنة وحَتَّم احتراقها، رمزٌ دال على فترة بعينها وَسَمَت النظام السياسي في مصر؛ وهذا الاحتراق الذي أتى على أوزير في نهاية ليلها هو رمز أيضاً لما هو متوقع حدوثه، ولا يعادل باندلاعه أوجاع الطاعون، ولا طمر الفيضان، وإنما هو حريق المَطْهَر، حريق يخلص هذا الوطن الموبوء من أسباب ونتائج الاستبداد والفساد. هذا الوطن الذي ألجمه الخوف أربعين سنة، وكم هي طويلة هذه المدة على وطن صبر ولعق جراحه وهو يئن.

   والتاريخية التي عليها النص بجزءيه ليست متغياه في ذاتها، وإنما هي ميدان لحركة الشخصيات والأحداث؛ وهي تاريخية مختلفة عن مثيلاتها في الروايات التي تناولت ذات الفترة أو تماست معها، روايات مثل: (السائرون نياماً ـ سعد مكاوي)، (الزيني بركات ـ جمال الغيطاني)، (البشموري ـ سلوى بكر)، (الموت عشقاً ـ نجلاء محرم) وغيرها،؛ واختلاف رواية سعد القرش بعنوانيها أساسه الالتزام بالنبض الشعبي وعدم الالتفات إلى ما عُنِيَت بتسجيله كتب التاريخ الرسمي. ومِن غير المظنون أنَّ «سعد القرش» قد عمد إلى تقديم رواية تاريخية بالمعنى المستقر في المجتمع الأدبي عن هذه النوعية مِن الروايات، فهو لم يقدم الوقائع كما سجلتها كتب التاريخ، ولم يقترب مِن المؤسسات أو القيادات والزعامات التي اشتهرت في هذه الفترة، الفترة مِن قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر حتى تولى محمد علي مقاليد حكمها؛ فلم يُذكر الأزهر في الرواية بجزءيها، كما لم تُذكر أسماء القادة مِن عسكريي الحملة الفرنسية اللهم إلا اسم أحد القادة المغمورين، ولعله اسم مختلق وهو اسم الجنرال (فوجير)، وكذا أسماء المماليك أو الثوار المصريين، أو حتى اسم محمد على ذاته؛ هو لم يعمد إلى هذا لأنه إنما عُنى بتصوير عُمق أزمة الشعب المصري الممتدة جذورها إلى عمق التاريخ، واهتم برصد أسباب وتداعيات العزلة الوطنية، مثلما اهتم بتتبع علاقة الإنسان ـ متعددة الدوائر والمستويات ـ بالزمان والمكان والدوائر الإنسانية الأرحب.

   الرواية ـ بجزءيها ـ بلا عقدة تتطلب الحل، لكن نسيجها محبوك، وحبكتها واسعة باتساع قرن ونيف مِن الزمان. زمن طويل استغرقته الرواية؛ وبحكم هذا الاتساع كثرت الشخصيات، وتنوعت الأحداث، وتعددت العلاقات، لأنها قدَّمت الحياة بما فيها مِن سعة وقترة، ونهوض وسقوط. هي رواية ملحمية النَفَس أو كادتْ، فيها قدر غير هين مِن التلقائية، وإنْ ظهر للقصدية وجودٌ في بعض المواضع، مواضع كتلك التي استلزمت وجود كتاب قديم أو ورقة صفراء أو اللجوء إلى تقنية الحكى والإخبار لسرد الأحداث التي وقعت خارج المشهد الروائي الذي يلتقي فيه إدريس بناس أوزير، فلولا الكتاب والورقة والحكي ما أمكن لأهل القرية، والقارئ مِن ثم، معرفة ما عاشه إدريس في الأراضي الشامية وبلاد الترك والروم، وباستثناء الأحداث المسرودة بهذه الحيل، فإنَّ أغلبها أحداث متولدة عن أحداث ومؤدية إلى أحداث، والشخصيات تُستخلف بشخصيات وتلتقي بشخصيات وتنفصل عن شخصيات، حياة ثم موت ثم حياة، أفراح حقيقية وأخرى مبتورة، إنها أحداث واقعية، وشخصيات لبشر حقيقيين مِن لحم ودم وأحاسيس ومشاعر.

   والبؤرة، مع حبكة كهذه، لا تحتاج مِن القارئ أو الناقد لاجتهاد في البحث عنها، فهي واسعة بالقدر الذي يتناسب واتساع الحبكة، وتشمل في دائرتها وطناً بأكمله (أوزير) إذ ينشأ وإذ ينهار، إذ يصعد وإذ يسقط، مثلما تشمل عوامل نشأة هذا الوطن وصعوده، وأسباب الانهيار ودواعي السقوط. واتساع البؤرة مُبَرَّرٌ ومقبول لاتساع معاني الإخلاص والخيانة، العدل والظلم، والحرية والاستبداد المبثوثة داخل هذه البؤرة.

   السرد مفعم بالطزاجة الجاذبة؛ والأسلوب سلس، انسيابي، بادى العفوية وما هو بعفوي؛ والحوار حي، بسيط، متسق وسمات الشخصيات ومراكزها الاجتماعية وطبيعتها الريفية، بالإضافة إلى ملاءمته للفترة التاريخية، وعلى بساطة الحوار فهو عميق مفعم بالمعاني ويكاد يكون فلسفياً دونما تماحك بمصطلحات وأساليب الفلاسفة، وفيه، مع كل هذا، قدرٌ مِن المخاتلة، إنْ على مستوى اللغة بجمعها بين العامية والدارجة والفصيحة، أو على مستوى الغاية والمرمى بمزجها بين متطلبات الحياة اليومية ومستدعيات الماضي، واستحضارها الآتي في الآني.

   وإذا كان الجمال والقبح نقيضان، فإن سعد القرش قد نجح في الخلط بينهما بفنية راقية، فارتقى بمشاهد القبح التي أوردها في ليل أوزير إلى مراقى الجمال، ولعل أبشع وأجمل هذه المشاهد، مشهد ساحة الخراء بما تزخر به مِن عنف وبشاعة، حيث يمتزج بالخراء ماء الكرامة الإنسانية، فيموت مَن يُعاقب بخوضها دونما جرح لإهاب أو إسالة لدم. إنه القتل الناعم كما سماه منصور، وبهذه الطريقة الجهنمية قتل منصور واحداً ممِن استوجب عقابهم (مرجان) بدفعه إياه إلى خوضها دفعاً (ليل أوزير ـ ص ص 68 ـ73). قد يستبشع ذوق القارئ وقوف الرواية به أمام ساحة كهذه، لكن جماليات المعالجة عند سعد القرش ارتفعت بهذه البشاعة إلى آفاق مِن السمو الجمالي لم تجعلها مقبولة فقط، وإنما أيضاً ضرورة لا بد منها كيما يتم تقبيح الاستبداد والظلم الإنسانيين. وقد سبق ثلاثة مِن الكتاب المصريين سعد القرش في الاهتمام بالمنطقة المشتركة بين الجمال والقبح، مِن هذه الزاوية تحديداً، هم: محمد روميش (الليل الرحم)، صنع الله إبراهيم (اللجنة) و(شرف)، وإبراهيم جاد الله (ظهيرة اليقظة)، وعن جدارة يستحق سعد القرش أنْ ينضم إلى هؤلاء الثلاثة.

   وثمة مزيّتان لا ينبغي تجاهلهما، أولاهما تتعلق باحترام الرواية للتيمات الشعبية المتوارثة كرسوم الحج التي يزين بها الناس واجهات بيوت العائدين مِن الحج، بما تشتمل عليه هذه الرسوم مِن جـِمال وسفن وآيات قرآنية ونخيل بالإضافة إلى الكعبة المشرفة والمسجد النبوي وغيرها؛ ومِن هذه التيمات الشعبية الجلوس إلى الفرن والترنم بالأهازيج أثناء الخبيز، وأيضاً أغنيات الأفراح والأحزان، وفيما يلي مثلين اثنين مختصرين:

   «ندامة على اللي راح ما خلَّف..

   شبيه الحمام لا باض ولا ولَّف» (عدودة ـ أول النهار ـ ص 170)

   «يا جمل يا أبو خف دايب..

   مشرق مشرق والله ونشوف الحبايب»

   «وفي طريق النبي جنينة رشوها..

   بناها الحبابيب والله لفاطمه وأبوها» (من أغاني الحج ـ ليل أوزير ـ ص 74)

   أما المزيّة الثانية فتتماس وأحوال المتصوفة، لا سيما الحج بالقلب، مثلما فعل عامر كبير أوزير يوم عرفه، حيث اختلى في خُصٍّ بعيد على شاطئ الترعة مِن الشروق إلى الغروب، لا قرب زوجة ولا طعاما، ثم أعادوه في الليل وهو يرتجف (ليل أوزير ـ ص 102).

   اللغة سليمة، اللهم إلا من النذر اليسير جداً، وحتى ما اكتشفه الكاتب مِن هذا النذر اليسير قام بتصويبه بخط يده، فلم يترك ما يُؤخذ على لغته. هَنتان فقط أفلتتا منه، أولاهما تتعلق بخطأ شائع وهو تكرار استخدام مفردة «رغم»، في حين أنَّ الأفضل هو استخدام عبارة «على الرغم من» أو «بالرغم من»؛ أما الهَنة الثانية فترتبط بعبارة «بز الصبايا» ـ كناية عن ثمرة المانجو ـ (ليل أوزير ـ ص 245)، والبـِزُّ كما هو معروف هو الثدى، وقد يُرَدُّ بأنها ليست بهَنة وإنما هي مقتضيات اللهجة الدارجة وطريقة تفكير الشخصية، لكن الأفضل مِن وجهة نظر الناقد القول «بِزُّ الصبية» باعتبارها ثمرة واحدة.

   ويقود ذكر هاتين الهَنتين ـ على ضآلة تأثيرهما ـ إلى الحديث عن الطريقة التي صور بها الكاتب قرية أوزير، فقد قدَّمَها كما لو كانت دوقية أوربية، ولولا الآيات القرانية والأسماء العربية وبعض عادات العرب لظن القارئ أنها إنما تنتمي إلى الواقع الأوروبي، عمََّق مِن هذا الإحساس اخضاع العلاقات التي تربطها بغيرها مِن القرى والمدن لبروتوكولات وقواعد وأحكام شبيهة بتلك التي كانت تفرضها الأوضاع الحاكمة لدوقيات أوروبا القرون الوسطى، مع قدر مِن مخايلة للدبلوماسية الدولية الحديثة، وكذا إسهام الشخصيات الأوربية المذكورة آنفاً في بنائها وتنميتها.

   وإذا كان وقوع بعض الأحداث الجوهرية خارج المشهد الروائي ـ لاسيما في الجزء الثاني (ليل أوزير) ـ عيباً فإنَّ العيب الأكبر يتمثل في اللجوء إلى الحيل التبريرية (الكتاب القديم والورقة الصفراء) لأنه، كما سبق الإيضاح، أكد القصدية على حساب التلقائية التي وسمت أغلب البنيان الروائي؛ ويُضاف إلى هذا ارتضاء المقموعين مِن أهالي أوزير بالمكوث في القرية والاستسلام لنير الاضطهاد، كأنما سدُّوا هم ـ وليس المستبدان منصور وخليفة ـ أبواب المغادرة أو حتى الثورة، هذه الثورة التي تأخرت كثيراً، وحينما جاءت في النهاية جاءت في هيئة تمرد غير كامل، ولعل هذا ما أدى بالكاتب إلى إحراق القرية بمَن وما فيها، وهنا تلوح القصدية بوجهها مرة أخرى.

   لا تقلل هذه الملحوظات اليسيرة مِن قيمة الرواية بجزءيها، فهي أكثر مِن ممتازة، وجديرة بكل احتفاء، ولا ننصح المثقفين والجمهور العام بقراءتها فقط، وإنما ننصح أيضاً مَن يشتكون مِن قلة الأعمال التي تصلح للدارما المصورة سينمائياً وتليفزيونياً، بالالتفات إلى هذه الراوية عظيمة الأثر عالية القيمة.

………………..

   * (مجلة “الثقافة الجديدة” / يوليو تموز 2010)

   * (“القدس العربي” اللندنية /16 ـ 3 ـ 2010)

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم