أنف وتوابل

صالحة عبيد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 صالحة عبيد

الصرخة الأولى:
كان يراقب من ثقب خفي في الغرفة المجاورة، وقت انشغلت النسوة في التراكض بين الغرفة التي توسطها الحدث والمطبخ الصغير الذي وقع مقابلا إياها تماما بالخرق المبللة، في الوقت الذي كان عصيا عليه أن يفهم ما سر هذه الجلبة الكبرى التي دوت فجأة يوم اشتعل البيت بصراخ أمه المتوجعة بهلع وهي تمسك ببطنها المتكورة قبل أن تهرع عمته إلى الخارج عائدة بجارتين و سيدة غريبة كان يراها للمرة الأولى، هو الآن يتأمل جسدها الضخم وهي تنحني على غالب جسد والدته الضئيل وتحجب عنه الرؤية، يعرف أن أمه الآن ممده على الفراش، يحاول أن يفتش عن إجابات محتملة لكل هذه الربكة الطارئة، يفكر بوالده الغائب، لا يعرف كيف له أن يترجم الآن فكرة هذا الفقد، يعرف أن ذلك الرجل يذهب ويعود، للمرة الأولى يشعر بهذا الفراغ المربك في صدره، لعل لذلك الرجل أن يمنحه الإجابة عن سؤال هذه الجلبة.
تصرخ أمه، من جديد، يجزع!

الصرخة الخامسة:
⁃ لن يكون رأس هذا الطفل أكبر من رأس “عبود بو راسين” أم سرور هي الداية الأمهر منذ عقود لن يغلبها رأس هذا الطفل.
انشغل عن الثقب بالحديث بين عمته وجارتهم، كانت الجارة تحاول أن تهدئ من قلق العمة، وهي تتحدث عن رأس الطفل الأكبر من المعتاد، الطفل القادم كما هو مفترض في خاتمة حدث الولادة المدوي، لكنه من موقعه ذاك، لم يكن له أن يفهم هذا الأمر، لقد كان فضوله متحدا مع ألمه وهو يستمع للصرخات الحادة والأنين، ويحاول أن يستدرك هوية السيدة الضخمة الجديدة وفحوى قلق العمة وهذا الحديث عن الرأس، تجرأ وأطل برأسه من الغرفة المجاورة، وما أن التقت عيناه بعيون العمة القلقة حتى سرت في جسده رعدة جعلته يعود إلى الداخل. أدرك أن هذا التقاطع لن يمر بهدوء، سمع وقع الخطوات المقتربة وأطلت العمة برأسها، ابتعد بجسده عن الثقب خوفا من أن تدركه فتمنعه من المشاهدة.
⁃ لا تخف “عزيز”، أمك بخير، سيكون لك أخٌ جميل تلعب معه.
لم يكن خائفا، أراد أن يترجم لها ذلك كما هي الفكرة في رأسه لكنه ومرة أخرى من موقعه كطفل في السادسة من عمره لم يكن له أن يدرك أحاسيس كهذه، أو يفهمها، لقد استبدت بفضوله عبارتها الأخيرة وهم بأن يسألها هل هو قادم أخيرا من بطن والدته التي تكورت وتضخمت؟، إلا أن قرعا قويا على باب بيتهم بتر المحاولة.

الصرخة العاشرة:
دخان..
جارتهم الثالثة.. “أم جاسم” تدخل في ربكة وهي تحمل مبخرا كبيرا وتهرع قاطعة المساحة المربعة الصغيرة لباحة البيت الطيني ناحية غرفة الحدث حيث صرخت أمه من جديد، وجد نفسه يعود هو ليتموضع عند الثقب، يسمع النسوة يتهامسن و”أم جاسم” تكرر ما سمعها تقوله دائما عن الحسد والعين وإبطالهما، لم يستطع أن يميز ما هي ماهية هذا الدخان الذي تستاء منه “أم سرور” وتتجادل مع “أم جاسم” بشأنه.
يسمعهم يتحدثون كثيرا عن الخزعبلات و الرائحة المزعجة ولا يفهم فحواها. إذ يدرك الأهالي غالبا في العاجل أم الآجل وبيسر أكبر أن لهم صغيرا لا يرى أو لا يسمع أو ليس له أن ينطق، لكن كيف لهم أن يميزوا طفلا لا حاسة شم لديه؟

العطسة الأولى:
ولدت “شما” من عطسة
كل ذلك الصراخ لم يكن مجديا، جاء الدخان بعطسة الأم التي دفعت الصغيرة بعدها بقوة، تأملها طويلا، كان لها رأسٌ كبير فعلا، لكن الأمر الأكثر ملاحظة هو أن أنفها كان أفطسا وممتدا لا يشبه الأنف الدقيق لوالده وجده، أنف لا يشبه أنفه الطويل أيضا،الذي جعل له الحظوة عند جده الذي ردد طويلا أنه يملك ذلك الأنف الذي يمهر هذه العائلة، سلالةٌ طويلة من الرجال الذين يغيبون أكثر مما يظهرون، سلالة من رجال الغبار والتوابل.
وكلما كبرت “شما” كلما تزايدت قوة ذلك الأنف، لم تستعصِ عليها أية رائحة، كانت تدرك القادم من رائحته، وتعرف أن لكل جسد دمغة خاصة به، هي دمغة الرائحة، مع الوقت تطور الأمر ليشمل حاسة التذوق، كانت تميز المكونات بدقة وتسميها، تسمي الشيء قبل أن تتعلمه، لقد شكلت المعجزة الحية، فتاة الثامنة كلما جاءت قافلة الرجل بتوابل جديدة، وضعت شيئا منه على طرف لسانها ونطقت المكونات “فلفل” أو “قرفة”، “قرنفل” و”هيل”.

العطسة الخامسة:
⁃ لقد قالت “بزار”* قبل أن تقول أبي، إنه إرث الحرفة ينتقل في الدم.
سمع جده يقول للرجال بفخر فأخذته المفاجأة وهو يتذكر امتعاض جده قبل سنوات من شكل أنف “شما” ورأسها الكبير، كانت المرة الأولى التي يسمع فيها ذكرا لأنثى في مجلسهم الخشن غالبا.. “شما” كسرت القاعدة، لم يعد أحدٌ يلتفت لأنفه المميز، الأنف الذي لم يعد هو يشعر بجدواه هو الذي لا يفهم معنى كلمات كالرائحة والمذاق فكيف له أن يفهم ما لا يحسه يفكر مرارا.. لا يعرف كيف يشرح بهم ذلك، لسلالة التوابل التي أقرت بفشله كلما قدمت له مزيجا ففشل في إدراك فحواه، كان يشعر بأنه بابٌ مصمت، كباب بيتهم الخشبي، يترنح بلا إدراك طول اليوم، لا يعرف الذاهب من الآيب.. لا تعنيه الوجوه، هامشي دائما، يتذكرونه أول اليوم وهو يُفتح وآخر اليوم وهو يُغلق، وفي حيّ متراص كحيهم كانت البيوت كلها تكاد تكون بيتا واحدا، أسرة واحدة على ساحل معزول عن العالم، لا باب له الجدوى الفعلية، وإلا لكانوا وضعوا باباً ضخما في مواجهة البحر، غادِرهم الوحيد ومقام التوجس الطويل لامتداده المجهول الذي غاب فيه كثر دون أن يرجعوا، في الوقت الذي كانت فيه “شما” كالريح عالية وعاتية وفاعلة دائما، متقدة في مرورها ومرونتها تلف جميع الأشياء والأشكال، فتترك عليها الأثر، لم تكن جميلة بالمعنى المتعارف عليه، في الحقيقة لم يكن لها وصف محدد كالريح تماما، لا وجه مميزٌ لها لكنك تحس بها دائما، لا يمكنك أن تتجاهلها أبدا، وبين الخور و”سوق الدويات”** كانت أثر “شما” يتفاقم، تحملها النسوة للساحل كلما اقترب الإياب لتخبرهم بأن روائح العرق والملح والغبار والتوابل تشي بأن بينهن وبين الرجال أسابيعٌ ثلاثة، ويستبشر بها أهل السوق حيث الباعة الذين يحلف بعضهم بأن “شما” الصغيرة قد ذاقت “البزار” هنا وأقسمت على جودته أو تحرص جارة من الجارات على أن ترافقها في رحلة البحث عن العشبة المناسبة لعلاج أثر الحمى على ابنة في النفاس، تمرر “أنفها” وطرف “لسانها” وتترك أثرها على التوابل والأعشاب والأحاديث، فيما يتصاغر “عزيز”.

العطسة العاشرة:
⁃ قد يكون السر في الأنف الأفطس.
عشرون يوما وليلة، استلزمه الأمر للتخطيط، بعد أن سمع “أم جاسم” تشير إلى أنف “شما” باعتباره مكمن القوة، كانت “شما” قد بلغت العاشرة للتو، وكان هو في السادسة عشرة، يتسكع كالظل بين الأحياء فلا هو صغير يلعب مع الصبية ولا هو الذي اكتسب موقعه بين الرجال، يود لو يدرك رائحة ما، تغير موقعه أو يتذوق شيئا يجعله يدرك المعنى، معناه، كان رجال التوابل قد عادوا لغيابهم الجديد في موسم التجارة، وبقي هو خلفهم، هذه الرحلة الثالثة التي يقصونه منها تأكيدا لخيبة العائلة، راقب “شما” طويلا، كان الأنف دائما يسبق الحدث، تأملها وهي تقدم رأسها الضخم وأول ما فيه أنفها يشعر بفتحاته الصغيرة أسفل استدارة ارنبته تنتفخ قبل أن تنطق بأثر “الحرمل” باعتباره المكون الأساسي للرائحة وهي تتنشق بخور “أم جاسم”، رآها في وقت آخر تمرر مسحوقا بني اللون على أنفها قبل أن تمرر عليه طرف لسانها لتقول لأمها أن السر في “الكركم”.
⁃ لعله الأنف إذن
قال لنفسه وهو يقترب منها في الليلة بعد العشرين، ثم قال لها وهو يشير إلى أنفه أن رائحة مبهمة تلف الساحل وأنه يريد أن يتأكد من أنها رائحة إياب رجال التوابل، شعر بأرنبة أنفها تتضخم كجزء من غرورها المتعاظم، فها هو يعترف أخيرا بأنفها الأفطس ليطلب منها أن تحل لغز رائحة ما، ظنت بأن في هذا الطلب ما قد يفك أمر علاقتهما الملتبسة، ففي الوقت الذي كانت تترك أثرها على جميع أهل الحي، بقي أثرها عليه باهتا، لم يسبق له أن منحها نظرة الإعجاب التي باركها بها جدهما عندما بلغت عامها السادس أو تهليل سيدات الحي وهن يشهقن أمام دقة وصفها لما تتذوقه من مكونات أو لما تقترحه من خليط للزيوت العطرية التي جعلت الحي يصبح إلى جانب التوابل شهيرا بالعطور المختلفة في تكوينها عن المعتاد، كان دائما يبدو كمن لا يراها فعليا.. وكلما اقتربت هي منه محاولةً أن تلمسه، تبدد هو كغيمة أمام الصحو، متلاشيا.
كانت هذه الليلة هي المرة الأولى التي تشعر بأنها تشم منه أيضا رائحة غير مألوفة، رائحة تمزج بين الخشب المحترق والعطونة الحامضة، لم تفهم ما سر هذه الرائحة التي تفاقمت كلما أسرع الخطوة وهو يسحبها خلفه، رائحة أدركت سرها عند الشاطىء والموجة اللامعة إثر بدر مكتمل تعكس ذلك النصل الحاد قبل أن تبتلع الصرخة.
هبت بعدها على الحي ريح قوية برائحة غامرة، تمزج بين الخشب المحترق والعطونة والتوابل، وتناقل أهالي “فريج شما”*** حكاية الفتى الذي استبدل أنفه الطويل بأنف أفطس، أعانهم به على شؤون الرائحة مستكملا القطعة الناقصة من سيرة رجال التوابل، هي الريح ذاتها التي مسحت من الذاكرة أثر “شما”، التي لم يبقَ منها شيءٌ سوى اسم الحي الذي أبتكرته “أمٌ” كانت تطوف بين الأحياء القريبة بحثا عن صغيرة قد تكون تائهةً بلا أنف في مكان ما، طفلةٌ جاءت في الحكايات المتناقلة إثر عطسة.

……………………..
هوامش ضرورية:

*)البزار: التوابل باللهجة الإماراتية
**) سوق الدويات: سوق الدواء وهو الاسم القديم لسوق الأدوية والتوابل في إمارة دبي، هو سوق يقع على خور “ساحل ” الإمارة تأسس قبل ١٦٠ عاما وفيه تعرض الأعشاب الطبية والعطرية والتوابل ومستلزمات الطعام.
***)فريج: الحي باللهجة الإماراتية

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون