“ألعاب الهوى” لوحيد الطويلة: الخيال المتوحش وسرد ما بعد الحداثة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فتحي عبد الله

إن أهم ما يميز رواية «ألعاب الهوى» للروائي الجديد «وحيد الطويلة»، هو مفارقتها لجميع أشكال السرد الفاعلة في الاداء المصري، الذي يجمع ما بين الحكاية في شكلها الشفاهي ممثلا في «خيري شلبي» أو الاداء الكتابي المتقاطع مع السرد العالمي ممثلا في «ابراهيم أصلان» ليقترح شكلا جديدا متجاوزا كل هذه الاداءات بما فيها من هشاشة تصل الى حد التفكك وانتفاء البناء وتحول النص الى وثيقة اجتماعية كما في النموذج الاول «شلبي» أو التشيؤ والموضوعية كما في النموذج الثاني «أصلان». وقد اعتمد «وحيد الطويلة» في هذه التجربة على الخيال البدائي المتوحش، الذي تم استثناؤه في العلاقات الاجتماعية التي تخلقت مع ظهور العمران وتكون المجتمعات في أشكالها الاولى، وما يصاحب ذلك من عواطف وانفعالات حادة ومتناقضة، تدفع جميع أطراف الصراع الى ذروة الفعل الانساني وهو الاستقرار

إن أهمية المكان في هذا النوع من السرد لابد أن يشكل جزءا من الرؤية الكلية للنص، ولابد أن يكون بدائيا وكأننا أمام أسطورة جديدة للخلق. ولهذا فقد اختار الروائي «الطويلة» المكان الخام «أرض الهيش» لتكون مولدا لجميع شخوص الرواية، أمام أفعالهم وسلوكهم البشري فكان بالقرى المجاورة لارض الهيش ولابد أيضا أن تكون شخوصه حادةوصارمة وممثلة للسلوك الفطري سواء في الخير أم الشر.

إن البناء الروائي الذي قدمه «الطويلة» محكما لانه اعتمد منذ البداية على رؤية واضحة في الصراع بينالشخصيات الرئيسية، فجميعهم نازحون ويعتمدون على العنف والقوة في السيطرة على الثروة وإدارة شؤونهم اليومية وتلعب علاقات القرابة أي منظومة العائلة المصرية وما بينها من ترابط حتمي وصراعات ضرورية الدور الرئيسي في نمو وتطور الاحداث. وتكاد تخلو الرواية من الحدث الكبير، لان الحدث المؤثر والفعلي هو الذي دفع بهم جميعا الى الاقامة في هذه القرية، وهم جميعا كانوا لا يملكون شيئا ويمارسون النهب واللصوصية، فهم مطاريد المجتمعات المستقرة، وتحركهم جميعا في هذه القرية الرغبة في الاستقرار والعمران، وعدم التصادم مع سلطة التقاليد الجديدة التي لم يتعودوا عليها وكذلك السلطة المركزية ممثلة في رجال البوليس والقضاء.

فالشخصية المحورية في هذه الرواية «الشيخ حامد» المتعلم في الازهر وخطيب الجامع، الذي لا يمارس الزراعة أو التجارة وإنما يستخدم المعرفة لخلق نوع من التناغم بين المتناقضات أو تأويلها بطريقة تسمح بالنقد أحيانا إلا أنه لا ينفي ما هو قائم طالما يحقق مصلحة الجميع. وهو لا يشارك في الصراع على السلطة وإنما الصراع كان محصورا بعد موت أبيه بين أخيه «النادي» وعمه «الشيخ قرد»، «النادي» الذي يمثل طموحات وأشواق الغالبية العظمى من أهل القرية ورغبتهم في التطور والتعليم والاندماج في المجتمع الكبير. و»الشيخ قرد» يمثل امتدادا طبيعيا للجماعة المنبوذة، التي تستخدم العنف والنهب في ادارة صراعها مع الآخرين، ويرمز الى الاشكال البدائية في العمل والفعل، التي تهمل القانون ويحتكم الى الانفعال الذي يعلي من الذات في مواجهة الجماعة التي ينتمي اليها.

والصراع دائما ما يحسم لصالح «النادي» لحسه الاجتماعي المتطور والعلاقة الكثيرة برموز المجتمع المدني ولإنسانيته الشديدة تجاه أفراد الجماعة.

ولقد استخدم الروائي في سرده الجديد تقنيات تكاد تكون مبتكرة أو جديدة منها:

1 اللغة الحية أو العضوية: وهي اللغة التي تخلو من التشيؤ أو النزعة الفوقية للروائي وإنما تكشف عن الشخصية في كل أفعالها اليومية المعيشة، ولم يتحقق ذلك في السرد المصري إلا على يد القاص «يوسف ادريس» وظلت تجربته رائدة لم تتكرر ولم تتطور إلا في رواية «الطويلة» فقد استطاع أن يمزج بين العامية والفصحى في نسق لغوي فريد لا نفور ولا ابتذال، وإنما استطاع أن يكشف عن لغة جديدة، روحها عالية ومتسعة للجميع من جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية حتى الدنيا منها. إن هذه اللغة استطاعت أن تنقل الرؤية كاملة إن لم تكن جزءا من هذه الرؤية، وفي ذلك إشارة الى إمكانية اللغة العربية في الوصول الى مناطق روحية جديدة، شرط أن يتخلص الروائيون من أعباء اللغة الميتة كما هو قائم في تجربة «إدوارد الخراط» أو اللغات المصنوعة عند معظم الروائيين خاصة الجدد منهم وأن يسمعوا إيقاعهم الشخصي أو إيقاع تجاربهم، كما حدث مع الطويلة.

2 السرد الاسطوري، إن السرد الاسطوري هو أقرب السرديات الى الابداع لاعتماده أساسا على التخيل والمشافهة والحكاية الشعبية ولقد استطاع الروائي أن يفكك كل هذه الاساطير الكبيرة ويعيد إنتاجها بما يتناسب مع تجربته الانسانية، فالرواية تدور حول «توطين» مجموعة من البشر في مكان ما وما بينهم من صراعات وما هي القيم التي تحكمهم وما هي أشواقهم وطموحاتهم البشرية وكأنها أسطورة جديدة وصغيرة تحاكي أسطورة الخلق كما وردت في الكتب المقدسة وكذلك صراع الاخوة على السلطة وكأنه استمرار لاسطورة «هابيل وقابيل».

أما بقية الشخصيات فهي صناعة أسطورية ذاتية لا تحاكي أساطير قديمة، وإنما تخلقها بنفس آليات الخيال المتوحش والظروف الاجتماعية المناسبة لتخليق هذه الاساطير الصغيرة مثل شخصية «الفنجرية» التي تركت قريتها بعد أن قتلت وهربت تعيش بمفردها كأنثى في مجتمع ذكوري عنيف. ثم تحب «النادي» الذي يرعاها وتعيش في كنفه وتحفظ أسراره وتساعده في السيطرة على العائلات المقيمة في القرية وتأوي في بيتها اثنين من المطاريد يساعدانها في التجارة نظير النوم والحراسة. وبعد موت «النادي» يسيطر عليها ابن «الشيخ قرد» و»فازيت حار» الذي تكرهه وعندما يغتصبها بعد جلسة من جلسات الحشيش تتأزم الفنجرية وتعاني من أزمة وجود وتحديد المصير حتى تقوم بفضح المؤامرة التي يعدها الشيخ قرد وابنه ضد الشيخ حامد.

3 التهكم والسخرية: إن مجتمعا من اللصوص والقتلة لابد أن يخلق حالة من العنف البدائي، من خلال بعض الطقوس والممارسات اليومية، إلا أن الروائي خلق حالة من المفارقة الحياتية التي تسعى الى تخفيض العنف وتخفيفه من خلال جماعة الفقهاء «حامد، اسماعيل» التي تعرف ولا تملك السلطة فجاء خطابها لفظيا غير فاعل مما أحدث نوعا من السخرية السوداء، وقد ظهر هذا في خطب الشيخ حامد التي تنقد الواقع بطريقة كاريكاتورية تثير الضحك أحيانا والالم أحيانا كثيرة. هذا الى جوار عالم الفقهاء المليء بالتناقضات واللذائذ الشخصية والرغبات الدفينة، فالشيخ حامد عالم الدين لا يهتم بشيء في الدنيا أكثر من الطعام. وخطابه الفقهي يحث على الكرم إلا أنه بخيل على الآخرين، حتى الشيخ اسماعيل، ويدعي الترفع إلا أنه يحسد أخاه في مركزه رغم أنه لم يتعلم، يدعو الناس في كل جمعة إلا أنه لا يشارك في شيء ولا يهمه إلا مصلحته الشخصية وتصل المأساة الى ذروتها في رغبته الجنسية غير المعلنة في الفنجرية. كل هذه المفارقات الحياتية رغم قسوة المجتمع تدفع للسخرية والتطهر، مما أحدث توازنا اجتماعيا في العلاقات بين أبناء القرية.

ومما دفع بهذه السخرية الى ذروتها اختيار الروائي للغة بسيطة شفافة ناعمة وتثير الفرح والبهجة في التعبير عن مجتمع المنبوذين والقتلة مما خفف وخفض من قسوة وعنف الافعال الانسانية لتلك الجماعة.

4 الطقوس اليومية: إن الطقوس والاحتفالات اليومية قادرة دائما على خلق المعنى الروائي دون مجاز لغوي وإن اعتمدت على فكرة الاداء الحركي والمشهدي لانتاج الدلالة وتسريب ما يمكن من العواطف والاحاسيس في شكلها الفطري والطبيعي. وقد كان أداء الشخوص في رواية «ألعاب الهوى» طقسيا بامتياز خاصة الشيخ حامد والشيخ اسماعيل والشيخ قرد وربما فنجرية في بعض المشاهد، ومن أهم الطقوس طقس الطعام سواء في منزل الشيخ حامد أو المنازل الاخرى وهو يعكس بدرجة ما بدائية هذه الجماعة، التي تطابق بين الطعام والحياة. أما طقس العبادة فمكانه الطبيعي هو الجامع، ولم يكتف الشيخ بتوصيل الخطاب وإنما كان يؤديه بطريقة مسرحية تعتمد الاشارات والايماءات وربما التلميحات الذكية وأحيانا الدلالات الصوتية للمفردات، وقد امتد هذا الطقس الى بعض الجلسات في المنازل عن طريق المحاكاة والتقليد، وربما يكون من أهم هذه الطقوس في الرواية طقوس الافعال السرية كالسرقة والمؤامرات لانها تعتمد لغة داخلية لا تخضع لاعراف الجماعة، وقد كان «الشيخ قرد» بطل هذه الطقوس هو وجماعته ويظهر ذلك من خلال علاقته بالمطاريد وسكان الجبل وشيخ المنصر.

إن رواية «ألعاب الهوى» لوحيد الطويلة تعيد الاعتبار لما يسمى بسرد الجماعة، بكل تخيلاتها الشعبية واليومية في شكل جديد، يتقاطع مع الاقتراحات الروائية الكبيرة، التي تخلصت من عقدة الشكل أو التي تبحث عن دلالة جديدة، فقد اكتشف خلال هذه التجربة أن ما يقدمه الواقع المعاش بكل ما فيه من تركيب وتعقيد هو العنصر الاساسي في بناء رواية ما بعد الحداثة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم