أسفل شلال

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

ألم يُنذر نفسه لصمتٍ هادئ، كثيفٍ، ومكتفٍ؟

راح يتقلب في فراشه الدافئ، محاولاً تناسي ذلك الهدير، المكتوم والمتواصل، الذي يجرح الصمت الشامل، بداخله ومن حوله. كان انسكاب أمواه الشلال، المتساقطة من تلك القمة البعيدة، المترائية، والمجللة بالثلوج ناصعة البياض، ينسرب من بين الشراشف والأغطية، متسللاً بلطف حتى العظام. أحس بعظامه تسبح في الغمر، اللامرئي، للتيار الدافق بالإصرار، وبالإصرار المحكوم بالضرورة، أو بالضرورة الملتاثة بفيض الطاقة المنتشية بذاتها، بوفرتها المُسترخَصة، وبالهدر. كانت قد لفَت ذراعها حول خصره، بينما كان يوليها ظهره العاري، الذي يلامس، بعفوية مثيرة شهوية المذاق، نهديها الطليقين من عقال حمالات الصدر الحريرية. وأتاه صوت تنفسها، العميق السادر في لذائذه المحجوبة، ليضعه، ثانيةً وأبداً، في مواجهة السؤال المحير؛ كيف يمكن له أن يكون هناك، عند مسقط ذلك الشلال البعيد، في فراشها الساخن، بدارتها القابعة بسفح ذاك الجبل ذي القمتين التوأمين، اللتين أشار نحوهما يوماً قائلاً إن الأولى للوجد والثانية للفقد، واحتضنها، بعنف اصطكت منه ضلوعها، باستسلام ممتن؟ ولمَا كان السؤال، ككل سؤال صميمي، لا جواب له، بل ولا معنى، أصلاً، لمحاولة اجتراح جواب عنه، فقد اكتفى بالتحليق المنتشي فوق هامات أشجار الصنوبر والبلوط الفليني، السامقة، الطامعة في بلوغ عنان السماء وشق الغيمات السارحة فوق الجبل.

 

ألم يُنذر نفسه لنسيانٍ رحيمٍ، بالٍ، ومعتكرٍ؟

في تمام السابعة، رن منبه الهاتف ليوقظه، كما يحدث في كل يوم. نهض متثاقلاً، ودائخاً قليلاً، كما يحدث في كل يوم. أخذ حمامه البارد، وشرب شايه الساخن، وابتلع حبوب الضغط ودهون الكبد وتصريف الماء المتجمع بالقدمين والساقين من جراء علاج تدهور عضلة القلب، كما يحدث في كل يوم. وضع النسخة، المزورة، من رواية “البعث” لتولستوي، والتي ابتاعها من شارع النبي دانيال، في حقيبة أوراقه، وثبَت سماعات الأذن في مكانها، وشغَل النوت على موسيقى” تشايكوفسكي”، ثم صعد لترام الرمل قاصداً مكتبه، تماماً كما يحدث في كل يوم. لمح جاره بالترام مستغرقاً في قراءة المصحف، فتساءل، مستغرباً، عن كنه تلك القوة، السحرية، الكامنة في الكلمات، القوة التي استطاعت أن تسبي عقول وأفئدة ملايين وملايين، لأربعة عشرة قرناً من الزمان، من دون أن تصبح قادرة على إلهامه، هو بالذات، أي شيء! ابتسم لنفسه بإشفاق، وربما بزهو، مستسلماً لمويجات أنغام “نزوة تشايكوفسكي الإيطالية”، النزقة والمترعة بالحزن.

 

ألم يُنذر نفسه لاستسلامٍ رواقي، مهيبٍ، ورخيصٍ؟

ولج المكتب بخفة المتسللين. لثلاثين عاماً خلت، ظل يكافح ضد فزعه، القار في عمق روحه، من دخوله للمكان. اليوم، وقد غدا المسؤول الأكبر في المكان، لم تزايله أحاسيس الاغتراب، تلك التي طالما طوقت النفس بكلاباتها الصلدة الشفيفة. جلس إلى مكتبه، ساكناً، حتى دخل عليه عامل الخدمة بفنجان القهوة المضبوطة. بان التردد، قليلاً، في وجه الرجل، قبل أن يستجمع إرادته، قائلاً:

– الأمين سراج ينتظر بالخارج.

رفع إليه عينين غائمتين، كمن يسأل، فواصل العامل كلامه:

– مندوب النيابة الذي قابل سيادتك بالأمس.

– أنتهي من قهوتي، ويدخل.

رد بفتور وتثاقل. 

دقائق معدودات، وكان أمين الشرطة، بلباسه المدني، جالساً إلى المكتب بمواجهته. سلمه مظروفاً مغلقاً، مختوماً بخاتم نيابة شرق، وقال:

– السيد المستشار، مدير النيابة، يرسل لسيادتك السلام، وأمرني بالعودة بردكم.

فض المظروف الرسمي بهدوء، ثم طالع ما به، بنظرة متمهلة ومتفحصة، قبل أن يشير للضيف المنتظر:

– فلتشرب قهوتك بالاستراحة، وسأجهز الرد للسيد المستشار.

هز الرجل رأسه، هزة خفيفة، على سبيل التحية، وغادر الغرفة، فيما راح هو يشغل جهاز الكمبيوتر أمامه ليحرر المخاطبة المطلوبة:

السيد المستشار/ وكيل النائب العام 

تحية طيبة وبعد،،،،

بالرد على مكاتبة سيادتكم رقم….. والمؤرخة في…../…../2018 وبمناسبة التحقيقات التي تباشرها النيابة العامة في الجنحة رقم…..نيابة شرق الإسكندرية، وبمراجعة سجلات المركز لدينا…

أتشرف بأن أحيط سيادتكم علماً بأن المتهمة….. الوارد ذكرها في مكاتبتكم، غير مسجلة بقوائم المراسلين الصحفيين المعتمدين لدينا، وأنه لم تصدر باسمها، من جهتنا، أية بطاقات أو تصاريح تخول لها ممارسة العمل الصحفي، داخلياً أو خارجياً.

مرسل للعلم والإحاطة و التكرم بالأمر باتخاذ ما يلزم.

وتفضلوا سيادتكم بقبول وافر الاحترام،،،،،

                                                                                                   التوقيع

رن جرس المكتب، مستدعياً مساعدته الإدارية. وجهها بإعطاء المكاتبة رقم صادر بتاريخ اليوم، ومهرها بخاتم المصلحة، وأخذ صورة ضوئية منها، بعد توقيع مندوب النيابة باستلام الأصل، وحفظها في الملف الخاص بالموضوع.

 

كانت قد قالت له بزهق:

– نضيَع العمر بطوله في هذه التفاهات المتكررة. 

– هو يضيع في كل الأحوال.

– أتساءل؛ لماذا لا نريح أنفسنا؟ لم يعد متاحاً لنا إلا عشرون سنة أخرى، في أفضل التقديرات، فلماذا نهدر خمساً منها في سجن الوظيفة؟ لماذا ينبغي علي أن أنزل إلى الشارع كل يوم؟ وتصدم عينيي القذارة، والفوضى، والعشوائية، والسماجة، كل يوم؟ لماذا أتحمل غباوات الرؤساء، وغيرة الزميلات، وكراهية الطالبات لفكرة تلقي العلم؟ ولماذا لا ننأى بأنفسنا عن ذلك كله، وننزوي بعيداً، حتى يقضي الله أمرأً كان مفعولاً؟

جلس عاجزاً عن الرد على أسئلة زوجته، البسيطة جداً، والمزعجة جداً. لم يقل لها إن الهروب من شرك الوجود ما عاد ممكناً، وإن سجناً، فسيحاً فسيحاً، باتساع الكون، يفغر للجميع شدقيه، مبتلعاً بتلذذ كسول نهم، وإن وجودنا، الموهوب لنا على سطح هذه البسيطة، تلك السنوات العشرون الأخرى المتبقية، كما تقول، ليس أكثر من مرور قصير لزائر نهاريٍ عابر، وإن الليل قادم لا محالة، وهو مستدام، وإن الفتاة، في حبوس السلطة، لربما كانت في الخامسة والعشرين، وإن حبسها لا يختلف كثيراً، من حيث الجوهر، عن حبسنا جميعاً، فقط في المادة التى تصاغ منها الجدران والقضبان، أو في المدى الذي تحيط به تلك الجدران والقضبان، وإن الحرية الإنسانية أكذوبة، والرفقة خدعة وتواطؤ، وإن الحياة قد تم تصميمها، ابتداءً، وفق قانون، عام شامل، اسمه انعدام المعنى، واللهو والتفاهة، قانون صاغه إله، أو شيطان، أو صاغ بنفسه آلهته وشياطينه، وإن وإن…….

 

استند بمرفقيه إلى الحاجز، الحجري السميك، قبالة الميناء الشرقي. أخذ يتابع، بنظراته الساهمة، انكسارات الموج، جيئةً وذهاباً. لاحظ، باهتمام مفاجئ، أن المجيء مبهور، دوماً، بالقوة، وبفيض الرغبة في الوصول، أما الذهاب فساجٍ وهادئ ومتقبلٍ، لا يستعجل شيئاً، بطبيعة الحال. ابتسمت له الشابة العشرينية، بعينين مكحولتين، من وراء نظاراتها الطبية السميكة. سألت:

– وهل تنوون البقاء طويلاً؟

استبطن ما تحت السؤال. دوَخه فرح مباغت، كالثمل. ابتسم لها بدوره، وأجاب:

– لكن هذا مرهون بكم أنتم.

– جئنا لنقبركم، تبدو مستسلماً، أم أني مخطئة؟ فهل ستواصلون القتال؟

– سنواصل حتى نُقبَر، هذا من طبائع الأشياء، وفقاً للكتالوج الذي أعده الصانع!

– وهل ستغتسل أسفل شلال؟

في الليل، شرع نافذته، مقتفياً خطى النجوم النائية، تلك النجوم التي تعيش لنا بعد آلاف، ملايين، السنين من موتها لنفسها. بادرها بسلام، صامت، بعدد تريليونات من الأمسيات والأصباح.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون