أسطورة روميو

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 41
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فصل من رواية: محمد عبد النبي

أمام أسطورةٍ بسيطة وقصيرة الأجل مثل أسطورة رمضان ابن الأسطى عزت الوحيد، ماذا بوسعنا أن نقول؟ يُمكننا فقط أن نواسيه قائلين إن السنوات القادمة لن يتسنى لها أن تخط سطورها الآثمة على سمرة وجهه اللامعة المحبوبة، وأن حُسنه لن يتبدل ويتغير مع الأيام، وأن آخر صورة فوتوغرافية له قبل الحادثة ستظل هي الوحيدة الحية في قلوب من يعرفونه، خصوصًا نساء الشارع ممن فتحن له الأبواب والسيقان، وقد تقاسمنه فيما بينهن بالعدل منذ أن شبَّ عن الطوق. ولكن لا تفيده تعزيتنا البلاغية في شيء، فما زال مُصِرًّا على معرفة الفاعل، كانا اثنين، ولكنه على استعداد لقتل عشرة رجال أو رجال الشارع كلهم ليعرف الغادرين. فيما مضى كان لطيفًا أنيسًا، لا يحب أبدًا شارعًا لم يمشِ فيه من قبل، ولا يثقُ في رجلٍ لم تجمعه به سهرة مزاج، ولا يرفع بصره نحو نساء أصحابه وأخواتهن وأمهاتهن، مهما كانت المغريات ومهما وردت الدعوات الخفية والظاهرة.

لعله كان عائدًا إلى بيته، بعد صلاة الفجر التي أداها مسطولاً وسعيدًا، وبكى في سجوده طالبًا من الله أن يغفر له أفعاله مع النساء، وواعدًا نفسه بتوبة قريبة عنهن وعن الحشيش. ولعله، اشترى لأمه العجوز كيس الفول وكيس البليلة والعيش الساخن، حين طلع عليه من مدخل البيت الملثمان، وقبل أن يتمكن من الوصول إلى مطواة قرن الغزال التي ورثها عن أبيه، ولا تفارق جنبه أبدًا، تمكن الجبانان من تكتيفه ومحْو بهاء وجهه الصبوح بماء النار.

فيما مضى كانت النساءُ تبسمل وتصلي على النبي عندما يُطل عليهن رمضان في فرح أو مأتم أو جلسة ودية خلال عيد أو مناسبة خاصة. لا ترفع البنات عينها عن البدر الذي فتنهن وشغفهن، وتلكزهن الأمهات والسيدات الكبيرات، والولد يدرك بسرعة ما حباه الله به من سلطانٍ على القلوب، ولا يتردد عن استغلال تلك النعم. وفيما مضى أيضًا لم يكن رمضان يطيق الوقوف طويلاً أمام المرايا، لا يخافها ولا يكرهها، ولكنه لا يحب أن يرى وجهه الجميل طويلاً. هو وحده من بين الناس جميعًا لم يكن يرى ما في وجهه من جمال، أو ربما يراه وينفر منه أو يملّه، ولعلّه أحبّ أن يراه أكثر في أعين المعجبات هنا وهناك. يغسل شعره ويدهنه بالزيت، ويمشطه بأصابعه وحسب، ولم ير في شعره الثقيلسريع النمو ولامع السواد شيئًا غير واحدٍ من هموم الجسد المزعجة مثل قص الأظافر وحلاقة الذقن. كان مُهملاً في نفسه، ولا يهتم بثيابه،بألوانها وتصميمها مثل الآخرين من أقرانه، المائعين منهم أو الجادين. روميو الابن الوحيد لوالديه، الذي لم يأكل الخبز الميري لا في معسكر تدريب ولا في عنبر سجن.

ماذا نملك أمام أسطورةٍ شعبية وبسيطة وموجعة مثل هذه سوى أن نحكيها بأقل قدر ممكن من التورط، وبأكبر قدر ممكن من الانحياز لروميو، البطل والضحية معًا؟ ماذا تعرف أنت عن أساطير هؤلاء الناس يا عم أحمد، وقد عشتَ عمرك كله بينهم؟ ماذا تعرف أنت عن المطاوي والسنج والسيوف والسافوريات والسواطير والكزالك؟ عن الرقص في الأفراح بزجاجات البيرة أو بالكراسي متوازنة بقدرة قادر فوق جبين أحد الأشقياء وهو مسطول، الأشقياء ممن تقرأ أخبارهم في صفحات الحوادث برعشة حسدٍ وخوف؟ وعن المخدرات ماذا تعرف؟ لا تلك التي تأتي إليكم في جلسة المزاج، خالصة مخلصة، مثل جاريةٍ مأسورة معروضة للبيع في السوق، ولكن عمّن حاربوا لجلبها، وتسريبها وإخفائها والهرب بها من بين أيدي العسس والحراس بالرشوة والخداع والدم. هؤلاء هناك، بعيدون، في الأساطير وعلى صفحات الحوادث.

روميو، روميو، لماذا لا تعطيني وجهك، وإن كان مشوهًا وبلا معالم، فهو أوضح وأصفى من وجه عم أحمد رجائي؟ ولا يتوقف طويلاً أمام المرآة، يمسح بيده سريعًا سريعًا على الخصلات الغزيرة الملساء، ثم ينزل ليرعى أكل عيشه، الهواتف المحمولة وإكسسواراتها ولوزامها ورناتها ونغماتها، والأسطوانات الجنسية، وربما الحشيش، من يدري؟ ولا يمسك أحدٌ عليه شيئًا، ولا يتورط مع البوليس أبدًا، ولا يتهم أحدًا عند التحقيق في تشويه وجهه بماء النار، ولا يكتئب أو يعتزل الدنيا بعد عودته من المستشفى للبيت، ولا يخرج عن أي عادة من عاداته، حتى الرجوع للبيت بعد صلاة الفجر.

فيما مضى، حتى الوقت لم ينجح في أن يجعل النساء والبنات تعتاد وسامة الولد، ولا اعتدن لمعان سواد عينيه وظله الطويل المهيب يتقدمه أو يتبعه جيئة وذهابًا. لا يعرف أحد من هي أول امرأة استدرجت غزال البر إلى فراشها، أن تكون امرأة وليست بنتًافهو الأرجح، ولكن أي البيوت؟ وعلى أي فراش؟ وتحت سقف أي رجل من رجال الحي؟ المؤكد أن هذا قد حدث مبكرًا للغاية، ربما قبل أن يكتمل اختطاط شارب رمضان تحت أنفه الأقنى، لأنه ما لبث أن أطلّ من وجهه نورُ المعرفة بالنساء، واكتست أضلاعه من نعمتهن طبقة شهية من اللحم، وسرى الدم في وجهه فأشعل سمرته بجمرة العشق المحرم. والمؤكد أيضًا أن المرأة الأولى –بارك الله فيها– لم تستأثر به لنفسها، وفي ذلك حكمة كبيرة منها، لأنها خشِيَتْ انقلاب السحر عليها وافتضاح أمرها، ومثلما فعلت امرأة العزيز فدعت نسوة المدينة ممن يتقولن فيها وفي يوسف، أهدت المرأة الأولى المجهولة رمضان لإحدى صاحباتها، بل وأعتدت لهنّ متكأ. كبر الولد بسرعة على أسرّة نساء الحي كلهن، أو لكي لا نرمي المحصنات نقول أغلبهن. كل واحدة تعلمه شيئًا جديدًا، سرًّا صغيرًاخاصًّا ببنات حواء، أو حيلة من حيل الفراش التي لا تنفد. وهو، رمضان الذي لم يُطق الجلوس في الفصل لإتمام الإعدادية، كان هنا تلميذهن النجيب، فاستوعب وواظب على الدرس والمطالعة، بل وابتكر وأبدع، حتى صار حُلمًا يحوّم فوق فراشِ كل أنثى، وكابوسًا يناوش سلام كل زيجة مهددة أصلا بالفتور والبرود. فيما مضى أيضًا كانت تتسع مع الأيام شبكة العنبكوت التي تحيط بجمال الولد، مركزها هو، أو ربما عيناه، أو طابع الحسن على ذقنه، وأطرافها غير محددة، لا بشارع منية السيرج ولا بالشوارع المجاورة والممتدة في سائر أنحاء شبرا مصر. والنساء ينسين الطعام على النار، ويتوه منهن العيال في الأسواق، ويغضبن على أزواجهن لأسباب مفتعلة، ويقضين الأسابيع في بيوت أهلهن. النساء يقضين نهارًا في حمومهن، والواحدة منهن إما تحاول محو ذكرى روميو عن لحمها وإما تعمل على استحضاره بالماء الساخن والليفة والصابون.

الآن صار كل شيء معلنًا ومكشوفًا، لم يعد يخشى روميو المشي في شارع لم يمش فيه من قبل، ولا رفع عينيه إلى نساء وأهل بيت أصحابه، ويتشارك في جلسات مزاجه مع أي عابر مستعد. يتردد على حريمه القديم في وضح النهار، فتُغلق في وجهه الأبواب، ويحلّفنه برحمة أبيه وبرأس أمه أن يتركهن لحالهن، أو أن يأتي في وقت مناسب، ولا يفضحهن، بلا جدوى. الملك يطالب بعرشه المسلوب، الملك لا يجد حرجًا في ذكر أسماء حريمه على المقاهي والنواصي، حتى ولو كان الزوج المسكين هو نفسه من يمرّ أمامه. راح الملك المغدور به يبالغ في استفزاز الجميع، لعل أحدًا يتصدى له، يرفع صوته أمامه، فيجد فيه متنفسًا ويسيل دمه، كما فعل لأسباب واهية في ليالٍ وأفراح كادت تتحول إلى مآتم.

وقيل إنه يحاول استعادة عيون مهاجميه الكلاب ليلا ونهارًا، يتذكر تلك الليلة مرارًا وتكرارًا كل يوم، وربما اقترب من أحدهم فجأة، أثناء دوران الحشيش، فيدقق النظر فيه للحظات، غير مبال بأمارات الذعر على وجه الرجل، ورجاءات التهدئة من الحاضرين، ثم يجلس مستعيدًا هدوئه، وقد سلم بأنه ليس هو. وقيل أيضًا إنه يشتري المرايا بجنون، ويقضي نهاراتٍ بطولها أمامها، يعلمُ الله هل كان يحاول أن يتذكر الوجه الذي كان له، أم ليتذكر الأعين الغادرة التي حرمته هذا الوجه للأبد.

ـــــــــــــــــــــــــ

مقتطف من رواية رجوع الشيخ

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون