“أحمر خفيف”.. سرد دائري وصرخة ضد القهر وغياب العدالة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. أماني فؤاد

بعد أن انتهيت من قراءة رواية " أحمر خفيف" للروائي وحيد الطويلة شعرت أنني كنت في مصاحبة منشد لأحدى السير الشعبية، يمسك بربابته يغزل لغة شعرية خاصة، ويجسد عالماً بينياً بين الواقع والملحمة ، منشد تفوح منه رائحة أعواد الأرز الخضراء في الأرض الطينية القديمة ، راوٍ يخرج من قلب أسطورة "إيزيس وأوزوريس "، ويتهادى بزورقه بين ضفتي النهر، أو جسد محروس ، محروس الشخصية الإشكالية بهذا العمل الروائي .

تراءى لي أيضاً مخرجاً سينمائياً ، يجيد التعامل مع أدواته ، يتخير بؤرة التقاط الحدث، زاوية الكاميرا، التقطيع، المونتاج ، رسم الشخوص بما يتناسب مع رؤية خاصة للعالم الذي يقدمه في روايته.

يولد السرد في رواية ” أحمر خفيف” من لحظة بينية شديدة التعقد والدلالة، لحظات الحافة بين الحياة والموت ، برزخ تتراوح فيه كل الموجودات فلا الحياة أمل واستمرار، ولا الموت يأس وفناء،الموت والحياة يأخذان هما الأثنان بأطراف بعضهما الآخر، ويتعاقبان على الوجود.

عالم من الاسترجاعات تتنادى فيه الشخوص والعلاقات التي تربطها بمحروس، محروس الشخصية المحورية بهذه الرواية وهو في مشهد سكرات الموت، وإنصاف ابنته تحت قدميه تستعطفه أن ينهض، وأقاربه وأهل القرية في فناء وممرات المستشفى ينتظرون صحوة محروس ، بعثاً جديداً للأمان والحق والعدل، والملائكة يتربصون ينتظرون مفارقة الروح لجسدها لعقد جلساتهم الخاصة.

من هذا المشهد الحيوي البيني الملتبس تتوالى تداعيات محروس ويمر بذهنه شريط ذكرياته وهو ما يمثل الطبيعة الخاصة لسردية هذه الرواية التي يتخير لها الروائي أرقام متوالية حتى رقم 18، ويبدأ كل فصل عادة بجملة أو عبارة يتذكرها محروس يسترجع فيها الأحداث والعلاقات دون نسق ولا ترتيب زماني أو مكاني.

يُنشد ” وحيد الطويلة” بربابته قصاً غير تقليدي فهي ليست رواية أحداث تتوالى ، قدر ما تعد رواية نماذج من البشر في عالم ملحمي شبيه بعوالم السير الشعبية، تتعدد الشخوص بالعمل فنرى إنصاف ، الفناجيلي، العناني، أبو الليل، ريفو أو عزت ، ناصر ، عبد المقصود، غزلان ، عزيزة العمشة، نشأت وغيرهم.

هذه النماذج البشرية يمكن أن تشكَّل عائلة مصرية ريفية ، تمثل شريحة اجتماعية يحكمها مجموعة من العلاقات تنظم هذه الجماعة ، لكنها أيضاً على المستوى الأعمق ذات أبعاد رمزية ذات ثراء متجدد ، هذه النماذج تمثل فيما أتصور الاتجاهات والأفكار والقيم الأساسية التي تشغل الإنسان بالوجود والحياة ، تمثل علاقة الإنسان ورؤيته للسلطة بأنواع ثقلها المتغايرة .

هذا البناء الرمزي الذي يحقق أحد مستويات التلقي يتوازى مع الأحداث والشخوص وفي الوقت نفسه يرصد التغيرات والتوجهات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي مرت بمصر أو بوادي النيل.

 الجميل في هذا البناء الروائي أنه يحقق هذا التراوح بين الواقع والرمز في فقرات ومواضع من العمل يبتعد هذا المستوى الرمزي لنعايش نماذج وشخوص وأحداث غير ورقية نراها بالحياة في مصر من حولنا.

خصوصية وتعدد مستويات قراءة هذا البناء الفني يحسب للروائي فالفن ليس مرآة للحياة، والتاريخ قدر ما هو كيان حيوي قادر على بعث الحيوات الخاصة والمتحدة، تشكيلات قائمة بذاتها ودلالاتها، تملك قدرتها على كشف الخفى من العلاقات في الوجود من حولنا.

انطلاق السرد من مشهد الموت وسكراته، وطبيعة هذه اللحظة الحدية الغائمة ، بالإضافة لطبيعة هذا البناء الرمزي الخاص ، خرجت بكتابة الرواية من الانساق السردية القارة وانغلاقاتها إلى نسق سردي شديد الخصوصية.

هناك لقطات مكثفة متوترة ، تقفز في وجدان وذاكرة هذا المحتضر ، بؤرة التوتر تلك تستدعي أحداثاً أخرى مرتبطة بها في حميمية خاصة وفي ذات الوقت مغايرة ليستمر السرد وينمو وكأنها دوائر تتماشى إحداها مع الأخرى وتتشابه في نقطة ما فتأخذها وتصحبها لدائرة أخرى ؛ لينطلق الحدث أكبر ، فالقص يأخذ بأطراف بعضه ليكمل المشاهد ويتكامل بناؤه، ويشيّد هذا الكيان الفني الذي يشبه نموذجاً من البيوت في قرية من قرى الريف المصري ، والدور تبدو في كتلة واحدة ليس هناك سوى جدران  لبنية بين البيت وصاحبه ، تنعدم المسافات الشاسعة في الريف المصري وفي الشخصية المصرية بينها وبين جارتها.

وعند ملاحظة نقطة انطلاق السرد نجدها تبدأ من العالم الداخلي لهذا البطل الملحمي لتصب في عوالم خارجية متنوعة ، الفرد مع المجموعة مباشرة.

مع سكرات احتضاره يتذكر محروس “…لوقلت أنا مَرة يا محروس مش هاطخك .

لم يلتفت، ولا برمت عينيه الشمال ناحية المأجور ، قتّال القُتلة ، كأن من ينادي عليه، ينادي في خرابة ، صوته يرتد إليه كأنه لم يطلقه..”(ص21).

يتذكر قول قاتله ، فيمسك بطرفي جلباب القول ليصور لنا مباشرة حاله إزاء هذا القول.

هذه الدوائر التي تسلم بعضها إلى بعض،بعضها داخلي يختص بحال محروس واسترجاعاته وبعضها خارجي مثل حال الطبيب مع محروس يقول الروائي :” بيد مرتجفة يحاول أن يغرز” الطبيب” الحقنة في الذراع ، المأجورة وأطلق عياراً طائشاً ، ثم آخر بيد مرتجفة إلى كتف محروس ” (ص31).

حادثة إطلاق النار على محروس تأخذنا لدائرة أخرى تخص حمارته لينقلنا الراوي إلى عالم الحيوانات يقول “…نط من ظهر الحمارة في كرش المأجور، وبرك فوقه..والحمارة انطلقت..تعرف الحيوانات لغة بعضها، تخاوي من تحب ..”(ص50).

 في البيئة الريفية المصرية لا حدود فاصلة بين الفرد وحيواناته المستأنسة ، كأنها أرواح تتعلق ببعضها وتتوحد معها.

تنطلق الحياة بالجسد المسجي على فراش الموت وهو يصارع الموت ينادي على الأحياء على الشخوص التي تمثل كل منها بنية من البنى التي تتشكل فيها الحياة بصراعاتها ،  يقول السارد :” ومحروس ينادي …يابو الليل ، ياناصر ، يانشأت ، ياواد يا عزت،…ياواد يا عزت ياوله ” (ص88) هنا ننتقل لدائرة عزت ليقول السارد مباشرة :” عزت طائر خلف الفساتين والمؤخرات..”(ص88).

كل هذه الدوائر الصغيرة على اختلافاتها تنصب في الدائرة الكبيرة في التكتل الحياتي الذي يشكل هذا الكيان المصري بفرده ، بمجموعه ، بالكائنات من حوله، بالموجودات مرئية أو متخيله.

يصنع الروائي هذه الدوائر ليس على مستوى الحدث وطريقة استدعائه لدائرة متعلقة به مغايرة بل أيضاً على مستوى الصياغة اللغوية يقول واصفاً مشهد قتل ناصر للطفل الصغير بمدية ” أخذها الصبي في كبده، طار بها برهة ثم انطفأ قبل الجسر، وصرخته الواهنة تلقفتها صرخات أمه القادمة من بعيد..” (ص139)، هذه الصياغات تستدعي ما يمت إليها بصلة، لتضعه في دائرة جديدة تسلم ذات الحدث لشخص آخر وإحساس مغاير.

تصف إنصاف حال مرحها مع والدها محروس تقول:” …وأنا أضحك ، أضحك حتى يهرب الضحك من روحي ليتدحرج على جبينك، غير عابئ بالضيوف الذين يدخلون فجأة دارك المفتوحة ، كعادتهم. ” (ص192)، يسلم الضحك في روحها إلى دائرة جديدة في جبين أبيها. يتنوع استخدام الروائي في لعبة دوائره المتنقلة والمتنامية، فيصوغ تراكيب تعود إحداها على الأخرى يقول :” وجوه تتقلب عليها الأماني والرجاء، واحد يبتسم وواحد يتبسّم ، وثالث يأكل الخوف تجاعيده، ودون أن يشعروا يتبادلون القسمات، تنتقل ملامحهم ، تعبرهم واحداً إلى الآخر، ويتبادلون القسمة .” (ص35).

هذا السرد الدائري لم يوفر حبكة تقليدية أو بناء روائياً متواتراً لأنها لم تتقيد بنسق زماني أو مكاني محدد بل باتت تتقافز في حرية جاذبة ما ترتديه من استحضار زماني استرجاعي أو استباقي ، أو تشكيل مكاني أسطوري متخيل ، يتماشى فقط مع المكان الحقيقي الوارد تحديده بالرواية.

أتساءل بعد هذا العرض للتصور السردي الدائري الذي قدمته في رواية ” أحمر خفيف” هل هذا التشكيل السردي الذي اتخذه المؤلف هدفا جماليا خالٍ من المنفعة أو العائد المضموني على مستوى الرسالة التي يتغياها العمل الفني أم أنه يحققها عن طريق التشكيل ويحملها بين طياته ضمناً؟

أتصور أن الروائي بهذا التشكيل السردي غاص بأصابعة الفنية في التكوين السيكلوجي للذات المصرية الأصيلة كما جسد تكونها الجمعي بل إنه في ذات الوقت استنهضها ، سجل للحظة احتضارها وما تعانيه من ضعف ، ثم دفعها إلى الصحوة والعودة إلى تكتلها الجمعي وتوافقها حتى على إختلافه ، وقد حقق ذلك من خلال مشهد صحوة محروس في نهاية النص.

يقاس نجاح العمل الروائي بقدرته وقدرة لغته على نقل الجو العام لأحداث الرواية وطبيعة موضوعها وتشكيلها فتتنوع لغة الرواية بين لغة السرد التي عادة ما تبدو فصحى محكمة على عكس اللهجة العامية الريفية التي تحتل الجمل الحوارية وهي لهجة تتلون بتلون شخوص الرواية وتغاير أهوائهم فتبدو لغة حادة وعنيفة على لسان القاتل المأجور يقول :” هو الوحيد الذي يشعرني أني قاتل ، أني كلب في بركة وسخة نويت اعتزل بعد قتله، بعد النسر ما تنصاد عصافير…” (ص30). أو لغة طامعة سلطوية عنيفة حين يصف الروائي ناصر ابن أخت محروس يقول:” رمى بلاه على الخلق، على كل نسمة ولو عابرة ، خرب الأرض وقلع الزرع، فتق الضرع ، غزه بطرف مديته لينزف حليباً ودماَ..” (ص130).

أو تبدو لغة شبقية تنز منها الرغبات الطبيعية أو الشاذة فيما يختص بشخصية عزت. “…عزت غرام ، عزت أبو حرمان . أبوه الغارق في لباسه التحتاني شم الحكاية ، …أبوك مدوَب النسوان ، وانت بتاع حمير..” (ص76).

أو لغة تتوسل فقط بالمفردات الصوفية لا روح الصوفية الخالصة على لسان العناني ورغبته في الاستحواذ على العهد الوادي، وادي جلانطة وعزبة إسرائيل أيضاً”..آخر المتمة آخد العهد على غجر جلانته بس، وحتى دي كمان ضاعت…وحين يركب العزم ويهم بالانطلاق ، يشعر أنه قُدَّ من حديد” (ص111.110).

تنقل الرواية مجتمعاً ريفياً بدائياً له مفرداته الخاصة التي نحتت مع توالي الزمن الممتد فنجد في النص تكوينات لغوية من قبيل ” لون الكركم أفضل من لونه / سواد بصفرة عليلة”، وعرقه أصبح مرقه ، وبرد شديد ينخره”، تفَ في عبه” (ص213).

هذه الخصوصية في التراكيب نقلت هذه الضفيرة من المفردات والمجاز لنقل ثقافة اللهجة المصرية الريفية.

تبدو اللغة في فقرات سردية وحوارية بالرواية خفيفة الظل، تحمل قدراً من السخرية التي تحملها الشخصية المصرية مثل قوله :” فرعون ده ولا جن أو قوله جسد عرمرم) (ص11.10). أو قوله على لسان المدرس يسأل عزت ” تصغير صابونة إيه يا عزت بابن الكلب؟

 – تصغير صابونة، تصغير صابونة..بروه يا أستاذ.” (ص75). أو مشهد النعش الفارغ والنداء أسمر وطويل وأحمر ومبطبط ثم موت زوجة العناني رعباً من النعش وقول الرواي :” لم يعد النعش فارغاً، عاد بها والعناني وضع المقشَّة في كفنها، كي تضرب بها عزت يوم القيامة”. (ص90).

تنمحي الحدود الفاصلة بين استخدام اللغة الفصحى في السرد الوصفي الذي يقدمه الرواي واللهجة العامية ونجد بعض المفردات والتراكيب شديدة الاقتراب من العامية المصرية ، كما أن الجمل الحوارية لا تخلص تماماً للهجة العامية دون مفردات الفصحى، وهو ما يمثل لعبة الدوائر المتداخلة التي شكلها الروائي واعياً أو دون قصدية مباشرة.

لعبة فنية أخرى يمارسها الروائي مع المفردة بهذا النص، فهو ينتقل بها من الاسم العلم إلى الصفة مباشرة في دائرة تلاقي تربط بين الشخص وصفاته في تكنيك لفظي مبدع ، يجعل من اللغة منطقة جذب تناوش عقل القارئ لتجعله في حالة يقظة ومتعة في آن واحد تقول والدة ناصر :” ماتمسكش البيض ياناصر ، الريحة الغربية تفسده يابني . لا تلمس البيض ياناصر،” (ص127).

شاركت التشبيهات والصور المجازية في خلق هذا الجو الريفي المصري المغرق في خصوصيته وخفة ظله يقول :” والشيخ عثمان يفرك سمرته التي أفلتت من سواد غطــــيس لأبيه وحده” (ص10).

التشبيه هنا يبحر في الصدع النفسي لفرج الذي طاردته عبودية أبيه ، فيصف الناس من حوله قائلاً :” ولسانهم الزفر حاضر عند أي خلاف، وأي هذر ، كأن صدورهم حفر تتناسل عفناً،.. وبضراوة” (ص63).

أو دور المجاز هنا في خلق حالة من العشق واللعب بالغرائز والشهوات في قوله وهو يصف جنات حبيبة الفناجيلي:” حين لمحته نظرت طويلاً في عينيه، ملأته واستدارت، انثنت إلى الأمام بمؤخرة عالية ملفوفة حرقت قلبه”. (ص95).

استعان الروائي بالمجاز ليسبك هذه اللغة الوصفية التي صنعت العالم الملحمي الواقعي بهذه النص.

تبدو اللغة وطريقة السرد في بعض فقرات بالرواية شبيهه بلغة المواويل والقصص الشعبي يقول الفناجيلي في حالة عشق:” عجبي على بنت بيضا واسمها جنات مدقوق على صدرها حمام حنفيات…” (ص103).

هذا بخلاف جو السردية العامة بالنص فهو يعطي هذا الإيحاء الملحمي الشعبي حين يبدأ الحكي عن الشخوص ودراما كل منهم مع الحياة، مع تواتر ملمح رئيسي بهذا العمل وهو هذه الثنائيات التي يقدمها الروائي والتي تضاهي ثنائية الخير والشر في الموروث الشعبي وتأخذها لتعطيها أبعاداً أعمق وأكثر تنوعاً، تسترجع عزيزة العمشة شخصية فرج وتضاهيها بشخصية أبو الليل تقول:” واحد يجري سواده على ألسنة الناس، وواحد يجري جذامه، واحد يرتفع بعزة النفس وبدوره كخطيب ومُقرئ، وآخر يسخر علناً من الخلق التي تسخر منه..” (232).

تبدو ثنائية أخرى في تنوع آخر بين أبي الليل والعناني يقول أبو الليل ” العناني يبحث عن غنيمة نهيبه ولن يشبع، وأنت تبحث عن طائر يغني، هو يتصور أن ضالته رهن شخص واحد، وأنت ضالتك عندك وتحت سمائك” (ص117).

و أخرى يقدمها الروائي بين عزت رمز الشهوات والرغبات والفناجيلي الخائف من الموت المنسحب من مواجهة الحياة، بين الرغبة والزهد، ولذا تبدو اللغة والتراكيب دائماً في حالة من المواجهة ، في حالة من التفاؤل ، لغة صاخبة الإيقاع.

أحسب أن تلك الثنائيات هي تشكيل آخر لهذا الملمح السردي الدائري بهذه الرواية،كأن المعنى أو القيمة تعشق نقيضها، وتصاحبها، فلا يمكن أن يستبين أحد الطرفين إلا في وجود الآخر.

**” المشهد في أحمر خفيف

للروائي طريقته الخاصة في بناء المشهد والتي تتوافق مع تكنيك سرديته الدائرية فهو يبدأ مشهده من نقطة اشتعال الحدث من ذروته، يقذفها إلى متلقيه حائرة وصادقة ، ثم يعود لبداية المشهد الذي يمثل حدثاً أو إضافة ما لينمو معها السرد.

يبدأ الفصل الخامس بقوله:” ..أقطع دراعي لو شفتوا بعض تاني ، آخر مرة تقعدوا مع بعض.ملتفون حول الطبلية ، الذي انحشرت لقمته في زوره، والذي… واستدارت. هبطت عليهم في منتصف العشاء تقريباً ، محروس وإخواته الثلاثة..” (ص 61:57).

يسلط الروائي فلاشات مركزة وسريعة تبرق وتتوهج، ثم يعود ليبدأ القص واصفاً خيوط الإشعاعات التي توالت وكونت هذا البرق الخاطف كأنها صفعات تمثل تحذيرات يوضع تحتها خط أحمر خفيف يقول : هكذا هو موروثنا الثقافي تتحكم به أشياء عبثية ولا معقولة، لكنها تحيا وتتنفس فيما حولنا ونصدقها. يركز الكاتب هنا على هذا البعد الروحاني الغيبي الذي يقبع بداخلنا كأن كهنة الفراعنة لايزالون يتجولون بحرية في أرجاء وجداننا القول السابق أطلقته مشعوذة مجذوبة وصدقته الأحداث التالية لهذه العائلة بموت أخوات محروس وغياب محروس ذاته.

مشهد آخر يبدؤه القاص في الفصل السابع بقوله:” الموت مش من عاداتنا، اقتل خوفك منه يا وله اقتله. والفناجيلي هائم ، لاتعرف إن كان يسمعك أم لا،..) (ص91).

كأن الروائي من خلال هذه التقنيات المكثفة والمتوترة التي يضعها في أول فصوله وهو في هذا النص، لجذب متلقيه وإثارة شغفه وكأنها إحدى اللافتات الدعائية على المستوى الأول، على مستوى آخر هي تأكيد على سمات أصيلة يتسم بها أهل هذا الوادي العريق الذي يعشق الحياة ويرى الموت حياة أخرى، يعد لها متطلباتها ويضعها مع من انتقل إلى هذه الحياة، فالمصري يرى في الموت حياة، على مستوى ثالث يلح الكاتب على فكرة الثنائيات التي تحدثت عنها سابقاً من يصرخ في وجه من؟ عزت رمز الشهوة والرغبة والحياة يدفع الخوف والموت والانسحاب من الحياة ،من الفناجيلي الهارب من الحياة، المنتظر الموت الذي يتصوره متربصاً به.

هذا التكوين المشهدي في علو ذبذباته الأولى ثم العودة إلى الاسترسال لبيان أبعاده كأنما تهبط بها يد الكاتب ، صفعات تنبيهية تستحث الحياة.

** لعبة التخمين وشخصيات أحمر خفيف

الشخوص بالرواية هي الأخرى تتجسد دوائر ، كل شخصية بمفردها دائرة من الرغبات والتوجهات، وطريقة تناول الحياة ورؤيتها، وكل شخصية مع باقي الشخوص دوائر تتماشى في نقاط الصراع التي تشكلها تصارع وتصادم المصالح والرغبات والمطامع ، هناك عالم من المواجهات الدائمة بين العطاء والأخذ بين الشهوة والزهد ، بين المرض والصحة، بين الحرية والعبودية .

هناك أبعاد رمزية للشخصيات بالرواية:

الفناجيلي ،  الخائف من الحياة، الطفل الذي نجا من الموت لكنه ينتظره في كل لحظة ، توقف عن الحياة في انتظار الموت لذا فهو عائش في نعشه وفي المدافن وفي الإحجام عن كل شيء.

يمثل عزت الشهوات التي لا تنتهي ولا تقف عند حد بل تبحث دائماً عن الشاذ والشائك والغرائبي علها تروي ظمأ لا ينطفىء.

أبو الليل نوع من البشر جعلتهم أقدارهم في قواقع خاصة،كانت إرادتهم الوحيدة ردود أفعال تمثل حوائط صدٍ لمقاومة أو الهروب من أقدارهم والسخرية منها، النفي نتيجة مرض يجعله يعيش ليلاً دائماً ولذا فهو ممثل للخفاء والغموض والأشرار والهروب، لكنه في نهاية الرواية يمثل نقطة أمل.

العناني هذا الطمع غير المتناهي، السلطة التي تتوسل بالروحانيات و عالم من الأوهام المتصوفة ، وأصحاب الكرامات، سلطة تقترن بالدين، عالم من الغيبيات التي لازالت تحتل مساحات من الوجود الإنساني لا يمكن الاستهانة بها.

يمثل ناصر الرأسمالية المكتسحة غير الإنسانية التي لا تتوقف أطماعها عند سقف محدد بل تجتاح كل الضعفاء في دوران عجلاتها.

تبدو الشخوص بالرواية منقسمة نصفها كائنات حية من لحم ودماء ونصفها الأخر ليست لأنصاف آلهة لكنها لتجسيد معانٍ وقيم تمثل دعائم وموجودات وصراعات هذه الحياة .

آن لنا أن نتساءل مَنْ محروس ؟ ولنا أن تتعدد تأويلاتنا. في لحظات وأنا أقرأ الرواية شعرت بهذا النهر الخالد ، نهر النيل الذي وهب هذا الوادي هذه الحياة، وهب مصر الاستقرار والأمان وأوجد بفيضه معاني من قبيل الحق والعدل والخير ، يقول الراوي واصفاً مشاعر أبى الليل لمحروس :” يكاد يكون الوحيد الذي يوقن أن الوادي لن يترك روحه بعيدة عنه..” (ص188). لحظات أخرى شعرت بهذا الإله” أوزوريس” هذا الذي تقطعت أوصاله وعكفت عليه إيزيس تستنهضه وتجمع أشلاءه لتبعث الحياة به مرة أخرى، ولنا في وجود شخصية إنصاف هذه الدلالة لحظات أخرى أراه المخلّص الذي تنتظره الناس في أشكال متعددة.

يبدو محروس هو الأمل في تحقق معاني وقيم الخير والحق والعدل بهذه الحياة.

يقول الرواي عنه:” شجرة ضاربة في الأرض، مهما جار خريفها فربيعها قادم، وصيفها”(ص277).

هنا قد نستطيع أن نفسر لماذا سمي العمل بأحمر خفيف ، هل هو خط أحمر يخطه وحيد الطويلة إنذاراً بالتجاوزات الحادثة بهذا المجتمع المصري الكهل والصراعات التي أنهكته. 

أم هو تمنٍ وأمل أن يعود لمحروس اللون الأحمر الخفيف بعد أن عانى سكرات الموت وشحب وجهه وشحبت حياته، أن يعود لمياه النيل خيرها وحياتها، لون طميه وجريانه واستمراره، لون نهضة وصحوة ينتظرها القاص من مواطنيه بهذا الوادي الذي صنع تاريخاً للبشرية .

غير أن هناك بعض الملاحظات التي أود الإشارة إليها:

1- ألحت على الكاتب التفاصيل، ووضع رموزاً موازية للواقع الروائي الفني الذي يخلَّقه، فكثرت الإشارات والإسقاطات السياسية والاجتماعية وأحسب أنه ليس على العمل الفني أن ينطق بكل الأشياء وأن يشار فيه إلى كل ما يشغل بال الروائي المهموم بتاريخه وقضايا وطنه.

2- نَدَّت بعض الشخوص الثانوية عن رسمها بعناية، مثل شخصية الطبيب الذي حاول انهاء حياة محروس ، ولم نتبين بالعمل دوافعه ولا مغزى تصرفه.

3- كانت هناك فيما أحسب نوع من المباشرة والتسطيح الذي يتجافى مع عمق العمل في إطلاق مسمى عزبة إسرائيل على الوادي المجاور الذي كانت له العديد من الصراعات مع وادي جلانطة.

4- لم يبتعد الجو العام بالرواية في ظني من عوالم نجيب محفوظ في “أولاد حارتنا” و”الحرافيش” ، كما كان هناك نوع من المبالغة في الإغراق في عالم الروحانيات التي أتصور أنه بات أقل تأثيراً في هذه الحياة المادية التي نحياها ، لكنَ الجو الملحمي الذي يقدمه الروائي يخفف من وطأة هذا الثقل.

في النهاية أود التأكيد على مفهوم أساسي أرى أنه لا سبيل إلى الابتعاد عنه لخلق عمل روائي على مستوى فني متميز وهو أن يحقق الشكل البنائي مضمونه وأن يتوافق معه، وهو ما استطاع أن يشيده “وحيد الطويلة” في نصه والذي يتلخص في تأكيده على وحدة الوجود لدى الشخصية المصرية، وحدة الكائنات، وحدة الموت والحياة ولذا بدا كل شيء في هيئة دوائر متداخلة ليصنع دائرة كبيرة تضم الأرض والسماء معاً في هذا العمل المبدع.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم