أحمد نبوي: جماليات التشكيل الشعري

أحمد نبوي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

من رباعية شعرية تشكلت تجربة أحمد نبوي، الشاعر والناقد، أربعة دواوين تنتمي بامتياز للألفية الثالثة، والديوان الأول الذي جاء في نهاية الألفية الثانية يمثل التمهيد لإعلان مشروع الشاعر عن نفسه في بداية الألفية الثالثة حيث الدواوين الثلاثة جاءت بمثابة التأكيد على حضور التجربة وتحقيقها ذاتها واشتغالها على نفسها وصولا إلى مرحلة النضج، وهو ما تحققه دواوين الشاعر الأربعة:

    –  شهادة حب 1989 – ط2 دار الفاروق- القاهرة 2010. 

    –  الجروح لها روافد2001   – ط2، 2010.   

    – لهب الأسئلة 2006 – ط2، 2010.       

     – المَشاهِد 2010.   

أولى مظاهر التجربة ذلك النفس الطويل للقصائد في تشكيلها من مقاطع تحافظ على عروض الخليل ونظام التفعيلة المعروف في القصيدة العربية الحديثة، تطول القصائد معتمدة نظام الجدارية الشعرية بما تتضمنه من تنويعات في التشكيل الشعري يسمح به حجمها وقدراتها النصية.

تتسع الجدارية لتشمل عشرات العناصر المشاركة في إنتاج خطاب الشاعر الذي لا يعتمد في تقديمها على طريقة واحدة أو تقنية واحدة، وإنما تتسع شعريته لإجراءاته الشعرية في سبك عناصره تعبيرا عن أفكاره، وتشكيلا لخطابه الخاص إنتاجا لجمالياته الشعرية الخاضعة لتصرفاه فيما يصلح لرسم مشهده الشعري.

ليست العناصر عشوائية في حلولها وليست العلامة الشعرية تفرض قادمة من مرجعية الشاعر بقدر ما هي تحل في موضعها اللائق وسياقها المناسب للدخول في علاقاتها المحددة مع غيرها، فالقمر لا يحل لإضاءة وجه المحبوبة أو ليكون شبيها به، والشمس لا تحل بوصفها علامة على زمن يحتضن حدثا ما وإنما تحل الشمس لتغطي برمزيتها الدالة مساحة الزمن الممتدة عبر الديوان أولا ولتضيء القصيدة ثانيا (يتكرر حضور الشمس أربعا وثلاثين مرة موزعة عبر مدونة الشاعر) متوازية مع غيرها من العناصر: الأرض 35 مرة – الليل 28مرة على سبيل المثال.

في قصيدته ” الدوران حول الأشياء ” تتشكل القصيدة من مجموعة من العناصر المحسوسة والمجردة، وفي مقدمتها الشمس التي يتكرر حضورها:

“فالشمس مازالت بحجرة نومها

والنور في أحضانها أغراني”

 تأتي الشمس ومعها النور مساحة من الضوء الكاشف لما هو مجرد، فإذا كانت الأشياء المحسوسة تمنح متلقيها القدرة على إدراكها بما لها من سمات التجسد، وهو ما تفتقده الأشياء المجردة فإن ضوءا مطلوبا يمنح المتلقي القدرة على إدراكها بالقدر الذي يجعلها تؤدي وظائفها في إنتاج الدلالة النصية، وهو ما يجعل من طول القصائد مساحة تتسع وتتكشف تحت ضوء الشمس التي تفرد طاقتها مانحة المتلقي القدرة على قراءة المشهد الممتد تاريخيا ومكانيا.

 كما أن الشاعر يقيم قصائده على التقنية نفسها، تلك التقنية القائمة على تنوع التفعيلة اعتمادا على بحر مركب التفعيلة (بحر البسيط: مستفعلن فاعلن، ومنها قصيدته الأولى في ديوانه الأول التي تتطلب وقفة خاصة مع نظامها الشعري المتميز)

تنطلق قراءة تجربة الشاعر أحمد نبوي من قصيدته الأولى” قراءة في جسد الوطن” في ديوانه الأول “شهادة حب” بوصفها واحدة من المفاتيح الأساسية في قراءة التجربة واستكشاف جمالياتها، والعلاقة قائمة بين شهادة الحب التي قدمها للعالم معلنا الحب للإنسان وقيمه وبين القراءة سواء أكانت هذه القراءة في الشهادة نفسها أم كانت القراءة في حد ذاتها هي الشهادة على العالم المرئي والمتعين

تقوم الصورة الأولى على تركيب مجازي يؤسس للقراءة في تصاعديتها من نقطة محددة إلى شبكة من العلاقات النصية، تلك الشبكة المكتشفة عبر القراءة، وحيث القراءة لا تعطي افتراضات مسبقة، ولا تقدم مقترحات سابقة على تحققها، فالقراءة فعل تال للأحداث ومواز لبعضها، وفي جانب كبير منها هي تعليق على الأحداث، واشتباك مع الواقع من خلالها.

قراءة في جسد الوطن (مبتدأ +جار ومجرور + مضاف إليه) ليكون الوطن غاية والقراءة وسيلة استكشاف، وتأتي القصائد كلها بمثابة الخبر الذي يفسر القراءة ويحدد مضامينها ويرسخ أفكارها، خبر متعدد يمتد على مدار تجربة الشاعر، ماكتب منها (تقريرا للحالة) وما سيكتب منها (امتدادا واعتبارا لما سيكون اعتمادا على ماكان ويقره راهن الحال).

يتشكل العنوان بصيغته الخبرية من: حدث مجرد من الزمن(القراءة) وموضوع (جسد الوطن)، والجسد في إشارته إلى التحول من الحياة إلى الموت فالجسد إناء فقد الروح ([1])، أي بات غير قادر على أداء وظائفه الحيوية، وهو ما يستدعي محاولة معرفة الأسباب التي أفضت إلى هذه النتيجة، والشاعر تحقيقا لذلك يرسم صورة تتدرج من الماضي للمستقبل مرورا بالحاضر:

  • الأولى في الماضي: “مضى زمان الهوى يا هند وارتحلا

                                    إن الجراح بقلبي تأكل الأملا

وكأن الشاعر يختتم حقبة زمنية انطوت حين يستهل قصيدته بالفعل ” مضى ” ويؤكد معناه بالفعل” ارتحلا ” وهو ما يؤسس لمجموعة من الدلالات:

  • دلالة الانقضاء مما يجعلنا في حاجة لبداية جديدة وقراءة للراهن بعد انقضاء زمن بكل تفاصيله.
  • التسليم بما يجب أن يكون، وهو ما يفرضه الشطر الثاني الذي يمكن تأويله بكونه معللا للشطر الأول أو مفسرا له قاطعا الطريق أما الهروب للمستقبل بفعل الجراح الملتهمة للأمل بوصفه فعلا مستقبليا.
  • تنفرد العلامة الشعرية (هند) بنقل الدلالة إلى الماضي العربي لتكون هند نسقا عربيا، ومعنى يخالف حصره في الاسم العلم، ويتسع معناه من كونه علامة على المحبوبة يرتبط ذكره بسياق الحب والعلاقة بالمرأة، إلى كونه يحمل من المعاني المضمرة ما يتجاوز حصره في العلمية ([2]) وهو نسق واسع الانتشار في الشعر العربي ([3])
  • الثانية في الحاضر: “تقريرا للحال يمتد خطاب هند إلى الصورة التالية، خروجا من صوت الفرد (بقلبي) إلى صوت الجماعة (ثغرنا- نعيش):

“كم قبلةٍ حلوةٍ في ثغرنا ذبلت

إنا نعيش زمانًا يسقط القبلا”

يعلن صوت الجماعة تقريره عن الوضع الراهن

  • الثالثة في المستقبل:

والحال هكذا تأتي الصورة الثالثة رهانا على المستقبل على فعل (هند) باتساع دلالة العلامة الشعرية ومراهنا على فعلها المنتج الذي سيقيم الأمل عبر الاحتمال القائم عبر حرف التحقيق (قد) + الفعل المضارع:

              “ضمِّي زهور الهوى في كف عاصفةٍ 

              قد تحمل الريح أشواقًا لمن رحلا

وهكذا تتشكل الصور الشعرية في تسلسلها والتعبيرات الدالة فيما تنتجه من أنظمة شعرية خاصة ، مفسحة المجال لقراءات متعددة تقوم على التشكيلات الشعرية المتنوعة في تجربة الشاعر .

الإيقاع السيفوني  

موسيقيا يعتمد الشعر نظام السيمفونية الشعرية القائمة في قيامها على حركات متنوعة، متغيرة القافية، متنوعة الإيقاع حيث يميل الشاعر إلى استخدام نظام السيمفونية الموسيقة (أربع حركات متتالية متنوعة الإيقاع)، وهو ما تترجمه عدة قصائد، في مقدمتها قصيدة ” قراءة في جسد الوطن ” تتشكل القصيدة على البحر البسيط من أربعة مقاطع تتغير القافية في كل منها:

  • الأولى (اللام) وتتكرر تسع مرات.
  • الثانية (السين) وتتكرر عشر مرات.
  • الثالثة: (النون) وتتكرر ثماني مرات.
  • الرابعة: (الراء) وتتكرر أربع مرات.

على مستوى تكرار المقاطع الداخلية يحقق العدد المتقارب بين المقاطع الثلاثة الأولى مساحة هارمونية، وعلى مستوى التباين العددي يتحقق نوع من الحيوية عبر الإيقاع الداخلي القائم على الصعود والهبوط بين الأرقام في تواليها: تسعة – عشرة – ثمانية – أربعة.

والنظام السيمفوني يجد مساحته عبر القصائد الطويلة المحققة لواحد من شروط السيمفونية الموسيقية (الطول) مع تباين الإيقاع وتنوع مصادره ، والشاعر عبر مدونته الشعرية يعتمد مجموعة من المصادر الموسيقية التي تتجاوز الوزن والقافية إلى انتقاء الحركة الداخلية المتخيلة في القصيدة عبر مواقع مختلفة يتحرك فيها خيال المتلقي زمانيا ومكانيا ، كما يثبت خيال متلقيه في مساحة محددة من المكان استقطابا لدلالات لا ينتجها غير المكان ، إنها حالة من البث المباشر التي يقف فيها الشاعر متحدثا من قلب الحدث ، وهو ما يجعل المتلقي دائما في موقع يكون فيه قادرا على الالتحام بالعالم وليس منفصلا عنه ، ومن هذه الأمكنة الرصيف بوصفه نموذجا لهذه الفضاءات .  

البث المباشر: شعرية الرصيف

في مدونة الشاعر يتردد الرصيف تسع مرات، في ثلاثة منها يأخذ موقعه في عنوان ثلاث قصائد، متخذا سياقات شعرية تؤسس لوظيفته، وطاقاته لإنتاج الدلالة الشعرية لبثه المباشر، يحدد الشاعر موقعه أو يحدد الباث الشعري موقعه، فضاء الرصيف ([4])، ذلك الفضاء الموظف لإنتاج دلالته الشعرية عبر مواقعه في المدونة.

ثقافيا يمثل الرصيف علامة على ثقافة الخروج عن النسق، أو هو نسق خارج عن الأنساق التقليدية لحياة مجتمع المدينة، نسق هامش خارج المتن يخلق متنه الخاص وينتج دلالاته الخاصة لصالح الذين يجتهدون في خلق نسقهم الأكثر جمالا من السائد المستهلك من العابرين والرصيف للخاصة من المنتحين جانبا أو الذين يسيرون إلى أهداف قريبة أو الذين يتوقفون لصنع حياة تراقب الطريق وتتأمل مساحات عمله.

يمثل الرصيف درجة من الخصوصية تتمثل في ارتفاعه عن العام، فالطريق على امتداده للعامة للذين لا يعنيهم المناظر المحيطة والإطار الحيوي، خلافا لمستخدمي الرصيف ممن يراقبون الزمن على الجدران المحيطة ويتابعون حركة الحياة في الطريق وهو ما ينطلق من الشارع حلما قبل أن يحققه شعريا.

ارتبط الرصيف عند الشاعر القديم بالحب ولقاء المحبوبة بوصفه موعدا مكانيا أو مكان اللقاء الأول، خلافا للشاعر الحديث الذي استخدم الرصيف منصة للبث المباشر تعبيرا عن أزمات العصر ومواضعات اللحظة التاريخية.

لم يكن للشاعر القديم رصيفه الخاص فقد كانت الأرصفة أمكنة عبور خلافا للشاعر الحديث الذي اتخذ لنفسه رصيفا خاصا يكون ملجأه مما يواجهه به العصر:” فألملم نفسي فوق رصيفي

ثلاثة عناوين تتصدر ثلاث قصائد يفرض الرصيف نفسه بوصفه عنصرا أساسيا في تشكيل الصورة الشعرية، وفي تكوين العنوان:

  • رصيف الحلم (ديوان ” لهيب الأسئلة ” 2006).
  • رضيع على رصيف المخيم (ديوان المشاهد 2010).
  • فتاة الرصيف (ديوان المشاهد 2010).

في القصيدة الأولى يبدو الرصيف فضاء متخيلا يلجأ إليه الشاعر فرارا بوعيه، وانتقالا من مناخ الواقع إلى طقس الحلم، مدفوعا بما يفرضه الواقع، وما تجبره عليه اللحظة التاريخية فيأتي فعل الفرار متكررا بصورة دورية:

“كل مساء ْ

حين تزلزلني الأخبار ُ

وتصفعني الأنباء ْ

تنهمر على ّ شظايا الهم ِّ

وتشتد ُّ الأنواء ْ

فألملم نفسي

فوق رصيفي

أفتح ُ طاولة َ الحلم ِ..

وألعب “([5] )

أربعة أفعال تمارس سطوتها على الشاعر (تزلزل – تصفع – تنهمر – تشتد) اثنان منها (الأول والثاني) كافيان للحد من وجوده، في مقابل ثلاثة أفعال هادئة طابعها الاستسلام يقوم بها في المواجهة (ألملم – أفتح – ألعب) مما يجعل من فعل الشاعر في الدرجة التالية بوصفه رد فعل في مواجهة القوى الضاغطة، الأفعال الأربعة تنتمي لقوى رباعية تواجه الإنسان الذي يجد نفسه مجبرا على القيام بأفعال تنتمي لفاعل واحد (ضعيف) يواجه العالم بقوة أحلامه، تلك التي تمنحه القوة لإعادة تشكيل العالم:

” أجذب ُ نجما ً

نحو الأرض ِ

أحطم ُ أسوار الأرجاء

وأُذيبُ الثلج

وملح الماء ِ

وأُطفئُ

نيران الصحراء ْ

وأُجفف ُ

جينات الجدب ِ

وأُلجم جانحة الأنواء ”                 

والأفعال في تكرارها وبوصفها رد فعل مجابه لفعل العالم تكشف في مضمونها عن توالي فعل القوى المواجهة، فالشاعر يشتغل على ماهو كائن بالفعل فأن يحطم أسوارا لأنها كائنة وقائمة بفعل قوة أوجدتها ويكون عليه محاولة التخلص منها، وأن يطفئ نيرانا لأنها قائمة، وهكذا يكون فعل الشاعر دالا على تحقق فعل سابق يجبره على رد الفعل، وهو ما يجعل من عمل الشاعر نظاما من المقاومة، ويمنح نصوصه شهادة المقاومة لتردي واقعه.

فإذا ما تتبعنا الشاعر في بقية المقاطع المشكلة للقصيدة بوصفها مشاهد تتشكل منها الصورة تعبيرا عن التجربة الإنسانية، عبر اللازمة النصية بوصفها رابطا منتجا للتماسك النصي وعنصرا صوتيا:

       “كل مساء

فوق رصيف الحلم ِ

أهيئ متكأ ً

وإليه

أدعو أصحابي:

                    إِخناتون

                    وسقراط

                    وموسى وعيسى ومحمد

  • صلوات الله عليهم –

                    وملائكة

                    وطيورا طيبة

                    ورجالاً ونساء                         

أدعو:            

        عنترة العبسي

        وأهل الكهف                   

        وطاغور

        وسيزيف

        وبواب عمارتنا

أدعو ….

        أدعو….

              أدعو أندلس الشعراء

يمنح الرصيف صاحبه مساحة من الحرية للإبحار عبر الزمن، وعبر الانتقاء المؤسس على الوعي يدعو الشاعر عددا من الشخصيات معتمدا تقنيتين:

  • تقنية الاستدعاء الاستعاري للحلول في الزمن لافتقاد الشخصية المستدعاة وخلو الزمن ممن يقوم بدورها، فنحن نستدعي من ينقصنا لا من يتحقق في زمننا، والشاعر يستعير ما ينقص زمنه لاجئا إلى زمن آخر، زمن كان صالحا لظهور شخصية لا يمنح الزمن الراهن عوامل ظهور مثيلاتها، والقائمة المستعارة تكشف عن قائمة من العناصر المفتقدة والقيم الضائعة التي يمثلها هؤلاء، مما يجعل التدقيق في قائمة الشخصيات معناه الوصول إلى قائمة المطالب فالشاعر لا يستعير هذه الشخصيات لذاتها فقط وإنما لما تمثله من قيمة ، إنسانية تنضاف إلى القيمة الجمالية المتمثلة في طريقة الاستدعاء ، فالشاعر لا يكتفي بذكر شخصيات لما تمثله ولكنه يفتح المجال لاستعارة قيم بعينها وأمكنة عاشت في رؤى الشعراء وخيالاتهم وما تعبيره بأندلس الشعراء إلا دليلا على صورة لمكان رسمه الشعراء أو قيمة لمكان وفق رؤية الشعراء ، وما الأندلس بوصفها الفردوس المفقود إلا النموذج الأوفى بذلك ، والأندلس قدمت لأجيال العربية اللاحقين عبر قناتين : قناة التاريخ التي قدمتها حدثا تاريخيا يخضع لقوة الأمم وسيادتها ثم ضعفها الطبيعي وزوالها تبعا لهذا الضعف ، وقناة الشعر التي قدمت الأندلس فردوسا مفقودا ماكان له أن يضيع، وما كان للسياسة وغياب الوعي بقيمة الأندلس أن يفضيا إلى التفريط فيما حققته القوة الإسلامية يوما حين شيدت الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس ، والشاعر حين يعيد الصورة الشعرية يعيد التحذير من تكرار الضياع ، ويعيد إنتاج الصورة في جانبها المأساوي حين يحشد شعراء الأندلس الذين رسموا الصورة ، وهو يفتح المجال واسعا لصورة تشمل كل شعراء الأندلس ويكون للمتلقي حرية الاستدعاء لشعراء بعينهم بصورة تتباين بين المتلقين فهناك من يستدعي ابن زيدون في محنته أو ابن خفاجة في رؤيته أو الرندي في صرخته الشهيرة على أطلال الأندلس ، و يكون المتلقي مخيرا بين أن يهتدي بما طرحه الشاعر من علامات شعرية توجه نوعا من متلقيه حين صدر ديوانه الأخير ” المشاهد 2010″   بالإحالة إلى شاعرين أندلسيين :
  • ابن حمديس الصقلي في قوله:

هُوَ ابْنُ بِلادي كَاغتِرابي اغتِرابُهُ       كِلانا عَنِ الأَوْطانِ أَزْعَجَهُ الدَّهرُ ([6])

والضمير يعود إلى نوع من أنواع النباتات يذكره الشاعر في سياق صورة إنسانية الطابع في تآلفه مع النبات ، والشاعر الحديث حين يعيد طرح الصورة عبر بيت الشاعر القديم فإنه يعمل على إنتاج صورة إنسانية يقول من خلالها كلمته : إذا كان الشاعر العربي القديم هداه إحساسه للتآلف مع النبات فإن إحساسي – من باب أولى – يهديني للتآلف مع ابن بلادي في محنته ، كما أن الشاعر يؤكد على العلاقة القائمة بين مأساتين عربيتين بامتياز : أولاهما مأساة ضياع الأندلس لأسباب صراعات العرب الداخلية ، وثانيتهما مأساة فلسطين التي يعيد العرب من خلالها إنتاج المأساة دون الإفادة من الدرس السابق ودون محاولة إصلاح الأخطاء .

  • ابن خفاجة في قوله:

فَحَتّى مَتى تَبري اللَيالي سِهامَها       وَحَتّى مَتى أُرمى بِها فَأُصابُ ([7])

والشاعر يستعير سؤال ابن خفاجة في دلالته الممتدة عبر الزمن، فالسؤال صالح للطرح مازالت الأسباب وما حققت من نتائج، وما استمر إحساس الشاعر بالعالم من حوله.

  • تقنية المجاز: حيث الشخصية المستعارة نماذج عليا تشبه تماما المجاز بوصفه أعلى جماليا من لغة الحقيقة، حيث تصعد الشخصية من كونها وجودا واقعيا إلى كونها وجودا مجازيا، متحركة من موقعها الأول أحادي الوظيفة(وهو ما يعني احتمال عدم قبول المتلقي لهذه الوظيفة الأحادية) ، إلى موقعها الثاني متعدد الوظائف (والتعدد يتيح تعدد فرص قبول الشخصية ولو في واحد من وظائفها المجازية المتعددة ) ، أرسطو على سبيل المثال الذي كان يمثل نموذج الحكمة في وجوده الواقعي يتجاوز هذا التمثيل إلى عدد من الوظائف التي تعبر عنها مجموعة الأسئلة التي يطرحها النص بدءا من سؤال السببية: لماذا يستعير الشاعر أرسطو ؟ إلى سؤال الكيفية: كيف أستعيرت الشخصية ؟ حتى سؤال النتيجة: ماذا تحقق من استعارة الشخصية جماليا ودلاليا؟، وهي أسئلة تتكرر منسحبة على كل الشخصيات التي يستعيرها الشاعر رافعا إياها من وضعية الوجود الحقيقي إلى وضعية الوجود الجمالي، وهو ما يعمل على توليد عشرات الأسئلة عن اختيارات الشاعر دون غيرها وما تحمله الشخصيات من دلالات على عصرها أولا وعلى عصر الشاعر ثانيا بوصفه عصر الرؤية الموحدة بين الشاعر ومتلقيه.

على مستوى القصيدة تتصاعد نغمة الشجن حين يلجأ الشاعر إلى توسيع دائرة المدعوين لمجلسه معيدا تشكيل عالمه المثالي تمهيدا لتشكيل وطنه الخاص، وقوة الشاعر تكمن في الفعل المتعدي الذي يوظفه الشاعر توظيفا خاصا (أجلس):

” كل مساءْ

أُجْلِسُ بجواري:

                    ضوء َ الشمس

                    وأحلام البسطاء

                    ووجوها

                    أزعجها الدهر

                    وثوارا

                    وخطى ً حائرة

                    وطموحات ٍ

                    وجبال الرحلة ِ

                    والآلام

                    وحبا ً كان

                  وأنات الأطفال ِ

                    ودمع ثكالى

                    ودماء الشهداء

                    أُجْلِسهم بجواري

                    وأخط ُّ

                    علامات استفهام ٍ

                          ثائرة ً 

                               حمراء” ([8])

يوسع الشاعر من فضاء الرصيف جاعلا منه ساحة لقاء لكثير من أحلامه المجهضة، الشاعر يحافظ على القافية، منوعا التفاصيل الداخلية، ومعتمدا أفعالا لها دلالة الاستمرار.

الصورة عابرة العصور

الشاعر وخطاب الطائر، أو الصورة ثلاثية العناصر (الشاعر + الغصن + الطائر) واحدة من الصور عابرة العصور الشعرية، وتمثل نسقا بارزا في سياق التجربة الشعرية العربية من قديمها ([9]) إلى حديثها، تتكرر الصورة في مدونة الشاعر بعنصريها: الشاعر والطائر (العصفورة) .

قديما كان الشاعر يخاطب الطائر شاكيا، ومحاولا الوصول إلى حالة من السلام النفسي، وحديثا ينطلق الشاعر بخطابه عبر سؤال مجازي الطابع، تتعدد وظائفه ومنها التوحد مع الطائر (والتوحد هنا له مرجعيته الرومانسية)، أو الاستشهاد بالطائر دلالة على عزلة الشاعر عن غيره من بني البشر (مرجعية حديثة لها جذورها القديمة في التراث الإنساني).

يعيد الشاعر المعاصر طرح الصورة معيدا إنتاج دلالتها، وإعادة توظيفها، مؤكدا أن الصورة العالقة في ذهن الشعر شاهدة على جينات القصيدة العربية وهي تؤسس ميلادها الجديد معتمدة على ميراث من الجينات الوراثية الداخلة في صناعتها جمالياتها الجديدة .

….

هوامش وإحالات

[1] – الجسم ما فيه روح، والجسد مالا روح فيه، وهو ما يؤكده القرآن الكريم في أربعة مواضع قال تعالى:

– “وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ” الأعراف 148.

– ” فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ” طه 88.

– وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ” الأنبياء 8.

– “وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ” ص 34.

ويقول المتنبي في مطلع ميميته:

                      واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ          وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ

                     مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي       وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ

فجاء ” الجسم في البيت الأول دالا على الحياة، والجسد في البيت الثاني وقد افتقد الحياة.

[2] – جاء في لسان العرب: هند وهنيدة اسم للمائة من الإبل خاصة، والتهنيد شحذ السيف، وما هنَّد عن شَتْمِي أَي ما كذَّب. وما هنَّد عن شَتْمِي أَي ما كذَّب ولا تأَخَّرَ. وهَنَّدَتْه المرأَةُ: أَورثَتْه عِشْقاً بالملاطَفةِ والمُغازَلةِ؛ قال: وهَنَّدَتْني فلانةُ أَي تَيَّمَتْني بالمُغازلة، وهَنَّدْتُ الرجلَ تَنْهِيداً إذا لايَنْته ولاطفْته. (لسان العرب، مادة: هند)

[3] – انتشرت المفردة على لسان شعراء العربية عبر عصور الشعر العربي، وتكررت في قصائدهم حتى بلغ ورودها في شعر عمر بن أبي ربيعة ستا وخمسين مرة.، وقد استمر حضورها الشعري في كل عصوره من القديم إلى الحديث محافظة على ما تدل عليه من الإشارة إلى نوع العلاقة الإنسانية.

[4] – الرصيف بوصفه دالا شعريا تردد بقلة في الشعر العربي القديم مقترنا بشعري المدينة العربية، ومن أبرز الشعراء الذين تردد الدال في شعرهم: المتنبي في قوله:

وقدَّرتَ من فرطِ الجهالة أنّني       أُقيمُ على كذبٍ رصيفٍ مُضَيَّعِ

ومعروف الرصافي:

وأعدّوا بهنّ كل رصيف       يحمد السير فوقه من سارا

ومن أشهر القصائد، قصيدة علي بن الجهم:

عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ       جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري

[5] – أحمد نبوي: الأعمال الكاملة – دار النسيم للنشر والتوزيع – القاهرة، جـ1، 2017، ص 72.

[6] – البيت الثالث من مقطوعة قصيرة للشاعر ابن حمديس الصقلي، من البحث الطويل يقول فيها:

                      وَنَيْلُوفَرٍ أوْرَاقُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهُ مُسْتَديرَةٌ         تَفَتّحَ فيما بينهنّ لَهُ زَهْرُ

    كَما اعتَرَضَتْ خُضرُ التِّرَاسِ وَبَينَها        عَوامِلُ أَرماحٍ أَسِنَّتُها حُمرُ

والنيلوفر: نبات مائي معمر ذو جذور عميقة وهو ينبت في المياه الراكدة. له ساق أملس يطول حسب عمق الماء فإذا ساوى سطح الماء أورق وأزهر أزهارا بيضاء كبيرة، مشوبة باللون القرنفلي.

[7] – البيت الثامن عشر من قصيدة طويلة للشاعر الأندلسي ابن خفاجة (51 بيتا من البحر الطويل) كتبها في رثاء الوزير محمد بن ربيعة يقول في مطلعها:

شَرابُ الأَماني لَو عَلِمتَ سَرابُ       وَعُتبى اللَيالي لَو فَهِمتَ عِتابُ

إِذا اِرتَجَعَت أَيدي اللَيالي هِاتِها        فَغايَةُ هاتيكَ الهِباتِ ذَهــــــــابُ

[8] – الأعمال الكاملة ص 77.

[9] – واحدة من أقدم الصور وأكثرها انتشارا في الشعر العربي، ومنها الصورة التي رسمها عنترة بن شداد في قوله:

يا طائِرَ البانِ قَد هَيَّجتَ أَشجاني       وَزِدتَني طَرَباً يا طائِرَ البانِ

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)