“أحلام مورجان فريمان” .. القصيدة في بلاد العجائب

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ثمة إعلان استهلاكي يعرفه أولئك الذين كانوا أطفالاً في ثمانينيات القرن الماضي بمصر. يُروِّج ذلك الشريط الاستهلاكي لنوع من "البونبون"، عبر مطاردة بوليسية عبثية لشخصٍ يسطو يومياً على مخزن الحلوى موضوع الإعلان، مطاردة تحالفت فيها شرطة العالم وأنتجت رعباً مكثفاً على شرف المذاق الآمن: أصوات سارينات سيارات شرطة وشعور داهم بالخطر وموسيقى موتِّرة لا تكف عن التصاعد. كان هذا الإعلان أشبه بطفولة استعارت عالم الذكورة المُقبل في أشد صورهِ إخافة وهزلاً معاً: خطر يُشكِّل في كُلّيته كوميديا سوداء، وعبثاً مكتملاً، يخاطب طفلاً افتراضياً عبر القيم النقيضة لفردوس الطفولة بالذات: يقدم المحقق كمجنون حلوى لا يقل جنوناً عن السارق، يجعل من الشارع الموحش بديلاً للاستوديو الآمن، وينهض بالضجيج كموسيقى وحيدة ممكنة للعالم.

في النص الشعري  “أحلام مورجان فريمان” لعصام أبو زيد، (دار بتانة، القاهرة)، يُستدعى هذا الإعلان الاستهلاكي في تناصٍ مبكر، يزيل عن “التناص” جلاله كأنه يعري ثقله وجديته لصالح خفة ذاكرة الاستهلاك الطفولية: “أتمنى أن أكتشف المخبأ السري للبونبون../ أبحثُ منذ الصباح… وها أنا تعبت،/ وحدث أن التقيتُ بالسيدةِ الساكنة في آخر الشارع،/ والتي كان اسمُها: لا تلمسني يا ذكرَ البط،/ وأصبح اسمُها: كأسُ النبيذ العاشرة من ماركة بوردو”. ليس هذا التعارض بالعابر، بل إنه العمود الفقري الذي تستند “أحلام مورجان فريمان” إلى مناخه: حلوى وحشية تنتقم من الطفولة بالانتصار لشفراتها. إنه، إجمالاً “بارودي” تنز السخرية من كافة جوانبه، وكأنه بتحرير “الأكليشيه” ينفي عن الماضي ماضويته، أو، بالأحرى، ينفي وجوده نفسه: “تذكرتُ أشياء منسية/ وأشياء لم تحدث”.

***

نحن أمام نصٍ فانتازي بالكامل، يطمح في أن يكون حلماً ويتوسّل من أجل ذلك بجميع آليات الحلم كخطابٍ مفارق: اللاسببية، العلاقات غير المنطقية، الطريقة الأتوماتية في خلق سيل متلاحق من الصور غير المتجانسة والقائمة على غير مثال، وفوق ذلك: خفة الحلم وقابليته للتبخر، وشفريته كونه رسالة تحتاج لكي تُفض إلى عملية “تأويل” تعيد قراءتها وليس “تفسير” يفض المستوى الأوّلي لعلاماته: “توجدُ رسالةٌ مغلقة/ في مكانٍ ما/ ولن أبحث عنها./ أعرفُ أن الأحلامَ لا تدوم”. يصلح هذا المقطع كتمثيل شعري لـ”مقولة” القصيدة الطويلة التي تُكوِّن “أحلام مورجان فريمان”، فنص عصام أبو زيد رسالة مغلقة على شروطها داخل حلم، تحتاج للعثور عليها، فضلاً عن فضها، دواماً للحلم بحيث يصبح قابلاً للتلقي، والدوام هنا هو تحوّله من التبخر السريع لعالم الصور المنامي إلى بقاء اللغة.  فالأحلام إن لم تُنسَ فإنها أيضاً يندر أن تصمد طويلاً أمام الذاكرة، ذلك أننا نصر على العيش بذاكرتنا كمستيقظين وننكر أن للأحلام أيضاً تاريخها.

محاكاة بنية المنام شعرياً

تنهض بنية “أحلام مورجان فريمان” على محاكاةٍ لمنطق الحلم وطرائقه في تحويل العالم من تمثيل لاستعارة، فالنص الطويل مُوزَّع على مقاطع/ أحلام قصيرة لاهثة، تُبتر فجأة مثلما تنطلق من أي نقطة، ويحيل بعضها إلى بعض اعتباطياً.

 مخيلةٌ طفولية، تستند إليها الذاتُ الشاعرة في إنتاج عالمٍ شعري سابح بلا شرط في فضاء المخيلة. هنا يُشيَّد وجودٌ استعاري من الألف للياء يصعب رده للواقع وفق منطقٍ كنائي، فـ”أحلام مورجان فريمان”، ينتمي بلاغياً على مستوى بنيته الشاملة للاستعارة، مديراً ظهره بقسوة للتشبيه. بالتالي فإن الطرف الاتفاقي الذي يشكل قوسي التشبيه يُستبعد نهائياً بحيث لا يمكن رد العالم الشعري إلا لقانونه الخاص الذي يؤلف علاقاته بالكامل نصياً لتتحقق في الأخير قصيدة سوريالية بامتياز.

 قد يجري الإيهام بوجود شبحي للواقع عبر ورود أسماء مدن أو سلع، أسماء أعلام أو عناوين نصوص، لكن كل ذلك يرد في سياق  واقع مُختلق، تدور أرضه في فلك كواكب جديدة ككوكب البيتزا، كوكب الحلوى، كوكب السعادة، كوكب الورد، كوكب الثلج، كوكب الفل وكوكب الياسمين. الواقع الشعري هنا يستعمل سكانه أجنحة الطائرات كمظلات ينامون تحتها، ويُستخدم فيه مسدس برصاصات خضراء للقتل،  تبيض فيه ذكور الذئاب، وتتحوّل إحدى أميراته إلى بالون كبير وتحلق، تعيش فيه جدة طاعنة في قوقعة تحت البحر، وتحكم جدة أخرى شعباً من قناديل البحر، وتتنقل ذواته في سياراتٍ مصنوعة من خشب الأبنوس وأخرى من البسكويت والعصائر المجففة. عالمٌ يصدر فيه كتاب حروفه مكتوبة بالفانيليا والفراولة والشوكولا، ويطل على محيطٌ تغمره النجوم، وتعلوه سماء تُبنى فيها البيوت والقلاع، هي بدورها سماء من الفلفل الأحمر، وتهطل فيه الأمطار لأعلى: “كنا صغاراً/ وكانت المجموعة  الشمسية لا تزيد عن كوكبين/ وكانت الأمطارُ تسقط إلى أعلى/ والحزن كان خفيفاً وناعماً”.

 الذاكرة لا تستدعي فقط سوريالية الطفولة الغفل في تحويل الوجود لاستعارةٍ طافية فوق شرط المحاكاة السهل، لكنها تستعيض عن استدعاء الواقع باستحضار صورته، أو نسخته الافتراضية، التي يمثلها الغناء والسينما والموسيقى باعتبارها الخطابات التي تُحوّل الواقع إلى نظامٍ علاماتي. بالتالي فواقع “أحلام مورجان فريمان” هو بدوره مجاز الواقع، لتصبح مرجعية النص الشعري هي مجمل النصوص الرازحة خلفه والتي يتحرك مجادلاً خطاباتها. ليس “مورجان فريمان” الذي احتل بطولة العنوان بالتمثيل الوحيد لذاتٍ مختزلة في دورها وموجودة فقط في واقعها الافتراضي الذي تمثله شاشة، فهناك قطيع ذوات على هذه الشاكلة من مطربين وممثلين وعازفين، وإجمالاً، أقنعة الواقع الافتراضي هي الذوات الوحيدة المتاحة في هذا النص: مايكل جاكسون، ستينج، جينيفر هدسون، عبادي الجوهر، إريك كلابتون، بيجي لي، وغيرهم. على جانب آخر، فإن الإشارات الثقافية الحاضرة هنا قادمة مباشرةً من خفة عالم الاستهلاك وابتذاله: سيل أسماء لمنتجات غذائية من أطعمة وحلوى ومشروبات. كأن العالم الاستعاري لأحلام مورجان فريمان لا يستند من العالم الواقعي إلا إلى بقاياه الحسية المتروكة في سلة قمامته، وكأن “أحلام مورجان فريمان” تعيد تدوير نفايات العالم، عبر مواده الأشد ابتذالاً وقابلية للفناء، لتجعلها جزءاً من عالمٍ آخر يتغذى قوامه المُفارق على بقايا الوجود الحسي في صورته الأشد زوالاً ليطفو فوق وجودٍ إنساني مقولته الوحيدة الجديرة بالتعاطي هي الفَناء.

المفارق، أن هذا العالم الاستعاري المحتشد بشفراته، يتكئ في تحققه كخطابٍ شعري على لغةٍ تداولية، متصلة بلغة الكلام في عاديتها واعتمادها أفق التوصيل. تبدو اللغة الشعرية هنا مكتفيةً بنقل العالم الجاثم كأنها زجاج شفاف يعكس عالماً غارقاً في غرابته بلغةٍ غارقةٍ في عاديتها. ليست لغةً منفعلة، أو محملة بحمولات عاطفية، أو متزيدة بمجازات تجادل عالماً مؤلفاً من المجاز أساساً، ولا وجود على الإطلاق للذات الغنائية حتى في أقصى تورطاتها بضمير المتكلم كمركز للعالم. تنتصر لغة “أحلام مورجان فريمان” على فخ الغنائية بمسدس السخرية وبهزلٍ مُغرِق، وما إن تُطرَح عبارةٌ متخمة بطاقة غنائية حتى تنقضها تاليتها بخفة العبث: “لأنني أفقدُ الكثيرَ من أحزاني ووحدتي/ على الشواطئ الرملية البيضاء، أقضي أشهُر الشتاء في تايلاند/ وأنا متأكدةٌ أنني أتحوّل إلى قطة/ قطةٍ بيضاء مع القليل من نكهة الكاكاو…/ تطاردني تلك الشجرةُ العظيمةُ الفريدة/ تطاردني وأنا أمشي في خاو سوان رود/ وأفكرُ في زراعتها عند عودتي في حديقة جدتي/ وأفكر في الوقت الذي سوف نقضيه معاً/ ونحن نصنع أكواب “تيراميسو موس”/ الممتلئة عن آخرها/ بالأحلام”.

 

حواريةٌ بين حالمين

يتشكل “أحلام مورجان فريمان” كحوارية بين ذاتين شعريتين، تتبادلان إنتاج النص وتتقاطعان في العلاقة الأشد ألفة ومبذولية: الحُب. سيل مقاطع يهيمن عليه ضمير متكلم موزع على ذاتين، فالأنا هنا تتقاسمها ذاتان شعريتان تتبادلان إنتاج الخطاب الشعري: ذات شاعرة مُذكَّرة وأخرى مؤنَّثة. لكن ضمير المتكلم في سيادته يُقطع دون هوادة بضمير المُخاطَب الذي يجعل من الذاتين موضوعاً للتلقي بالتبادل. الذاتُ الشاعرة في “أحلام مورجان فريمان” تلعب إذن دورين متواشجين: تنتج الخطاب الشعري وتتلقاه. هذا التبادل بين صوتين هو ما يمنح نص “أحلام مورجان فريمان” حواريته ويشع الحيوية في ثناياه.

 كلا الذاتين يقدم نفسه، بلا مواربة، كحالم، وكأننا أمام علاقة تجري فصولها أثناء النوم. علاقة تستيقظ مع الغياب الكامل للوعي، لتؤلف عالماً باطنياً بالكامل لا مكان فيه لمُكبِّلات اليقظة: “في كل أحلامي أفكر فيك/ أحلم بأشياء غريبة…/ أحلمُ وأنا في العمل… وأنا أقودُ سيارتي/ وأنا أحطمُ سيارة جارتي/وأنا أشتري كتباً جديدة لبحوثي العلمية”. الذات الشاعرة المذكرة أيضاً تقدم نفسها في سياقها الحلمي: “كُنَّا.. أنا ومورجان فريمان/ في نفسِ السيارة القديمة/ المخصصة لنقل الأحلام/ بين القرى والمدن”. بهذا المنطق يتحقق عنصر آخر في التخفف المكاني الفادح الذي يسم النص، فالذاتان تقطعان الكرة الأرضية بسلاسة الانتقال من غرفة لأخرى، من باريس لطوكيو، ومن لندن للسنغال، ومخن نيوزيلندا لكمبوديا، كأنها رحلة الإسراء الأشد استحالة لأشد الذوات عادية وعبوراً.

لن تخلو قصيدة عصام أبو زيد من نقلات أشمل على مستوى البنية الكُلِّية للنص، تحكمها إدارة “سردية” لمجمل الخطاب، تجسدها نقلتان رئيسيتان تجعلان من “أحلام مورجان فريمان” نصاً من ثلاث حركات. فبعد التأسيس الذي يمثل الحركة الأولى، وفي منتصف القصيدة بالضبط (صفحة 55 من 110 صفحة هو عدد صفحات النص) يحدث تحوّل جوهري، يمثل خلخلة عنيفة في صورة الذات الشعورية المذكرة، إذ تخلع الذات الشاعرة قناعها لتتحد بالشاعر الذي يحركها متخذةً اسمه وصفته: “أنا أصدق كل شيء تقوله يا عصام/ ويبدو أن مشكلتي القديمة مع الكتابة إلى زوال، اليوم قرأتُ كتابك “اخترعتُ برتقالة” وبكيت./ أنت تقرأ إحساسي جيداً، وتلهمني أشياء كثيرة عن نفسي”. في هذا المقطع، بصوت الذات الأنثوية عبر ضمير المخاطب، يحضر اسم “الشاعر” الواقعي وعنوان إحدى مجموعاته الشعرية الحديثة. لعبة كسر للإيهام تحضر فيها الذات التجريبية بوصفها نفسها الذات الشاعرة، وتذوب المسافة الفاصلة بين الوجه والقناع. بدءاً من هذه اللحظة، سيتكرر حضور الذات الشاعرة باعتبارها “عصام”، منتقلاً من الدور المخاطب باسمه إلى دور المتحدث باسمه: “أنا عصام.. أو تخيّلي أنني عصام/ “، فضلاً عن التمويه، بين حقيقة الاسم واحتماليته، فإن هذا المقطع أيضاً محرك جديد يمثل نقلة “سردية” ثانية في القصيدة، إذ تتحول الذات إلى آلة أو جهاز تحتاج كلمة سر لتعمل: “اكتبي الحرفين الأولين من اسمكِ، ثم أضيفي إليهما شعلةً مضيئة/ ثم اسكبي الماء فوق رأسكِ.. هكذا يمكنكِ أن تخمني كلمة السر./ أدخلي الكلمة، واسمعي تفاصيل القصة كاملة”. تتشيأ الذات المُذكَّرة تماماً حتى يبدو صوتها الشعري معدنياً في المقاطع اللاحقة: “شفتاي في الصيانة، ولا يمكنني الآن تقبيلك/ اذهبي إلى متجر الألعاب النارية، واشتري قنبلةً صوتية”.

 

في هذه النقلة ستتحول الذات الأنثوية أيضاً إلى صوتٍ فقط، حيث يفنى جسدها بالموت ليطفو خطابها، من استشراف موتها الوشيك: “إلى اللقاء يا عزيزي.. إلى اللقاء في الجحيم” (صفحة 66)، إلى تدشين خطابٍ تكتبه ذاتٌ فانية: “الرحلةُ هادئةٌ جداً، ونحن الآن في التاكسي/ لم أتمكن من الاتصال بك لأن الجنة بلا هواتف/ أخبرني كيف تمر الأيامُ عليك؟/ قرأتُ في السماء خبراً حلواً عنك/ يقولون إنك صنعتَ في غيابي شجرة ورد/ وصنعتَ من الموسيقى التي أحبها بحراً/ أنا بخير.. اختفى الألم الرهيب”.

 

ينتهي “أحلام مورجان فريمان” بانشطار “الأنا” الإنسانية بين التشيؤ والموت. الصوتُ فقط يبقى، كدليلٍ على أن ذواتٍ وُجِدَت هنا ذات يوم. الصوتُ يبقى كذؤابة لهب نحيفةٍ نجت من نارٍ خمدت. يبقى كتلويحة، ليكتب ما تبقى من العالم، أو بالأحرى، ليعيد خلق العالم فوق أنقاض الطفولة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صدر مؤخرًا عن دار بتانة 

مقالات من نفس القسم