أحاديث الجن والسطل.. المجد للحكايات

موقع الكتابة الثقافي writers 64
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

حينما تختلط تخوم الواقع والوهم، الحقيقة والحلم، تفقد القدرة على التمييز بين تلك الحدود، وهل من تعريف حقيقي للواقع والوهم سوى أنه مرادفات لمواءمات عقلية وضعية في المقام الأول؛ فما فرضه العقل واقعا فهو واقع، وما فرضه وهما فهو وهم، وكم تختلط الأمور والقياسات على العقل الإنساني، فما يعتقده وهما قد يكون هو عين الحقيقة والعكس.

لا يعبأ كاتبنا كثيرا بتلك الأطروحات الفلسفية، ليكون ولاؤه الحقيقي للحكاية فقط، لتشكل الحكاية بذاتها وببصيرتها حدود الوهم والحقيقة، لتنصهر التخوم مكونة منطقها الخاص بها. على شرطين تعاقديين اثنين يبرمهما الكاتب؛ الأول أن تسلم له قيادة المنطق يفعل به ما يحلو له، يطوعه كيفما شاء، والثاني أن يكون ولاؤك كولائه للحكاية فقط. وبداية التعاقد تتبدى منذ قراءتك، واختيار” محمد عمرو الجمال” لعنوان روايته ” أحاديث الجن والسطل”.

وهل يعول على حديث الجن ؟! وماذا تقول في إخبار من أخذ السطل، “سطَلَ يَسطُل، سَطْلاً، فهو ساطِل، والمفعول مَسْطول سطَلته الخمرُ: خدَّرَته، دهشته، أفقدته وعيَه سطَله دواءٌ / مخدِّر” بقياده فاختلطت العوالم بعينيه .

وكانت أول سطور الرواية بمثابة توطئة العقد “حسنا…أنا مجنون …دعنا نصل إلى هذه النتيجة مبكرا من قبل أن تستهلك سطورا وخلايا عصبية كثيرة في اكتشاف هذه الحقيقة البسيطة. “

وهل الجنون محض خروج عن قوانين الواقع أم هو فضلا عن ذلك محاولة لاختلاق قوانين جديدة مباينة تناطح قوانين الواقع المتغلب؟.

يؤسس ” محمد عمرو الجمال ” لأسطورته فكأنه يعيش الأربعين يوما الأخيرة قبيل الموت ليفقد وجوده المادي وينساب روحا خالصة متمثلة في شخصية ثنائية الأقانيم متوحدة الرغبة و الحلم و الإرادة نور النديم/ حسين الدرغامي ولكنهما في ذات الوقت يتصارعان فيما بينهما على إثبات أن الرواي أحدهما دون الآخر. ” وجاء رجل وزوجته التي كانت تحمل رضيعها على صدرها ووقفا عندي، ثم جلس كل واحد منهما على ركبة لي وفاضا بأدق أسرارهما في حجري من دون أن يلحظا وجودي…”

يؤسس “محمد عمرو الجمال” للأسطورة بتقنيتين؛ التقنية الأولى “الواقعية السحرية” التي تغص الرواية بمقطوعاتها لا لأجل إظهار القدرة على هذا الفن “الماركيزي” المتفرد ولكن لخدمة النص وتطوير الحبكة، فلا تراه مستغربا أو أجنبيا منفصلا بل مكملا ومسخرا لفكرة الكاتب ولبنية الرواية . كفصل المساخيط” أسرار، مستورة، الشيخ قللي(إمام جامع القرية الكبير)” تلك الشخصيات ثنائية الطبيعة الطينية/ النارية التي تخلقها و تكتب حكاياتها عفاريت الترعة الخضراء المحتضنة لعالم القرية ” كحدوة حصان”، عهود رئيس عصابة جن الترعة مع نايل النديم / الدرغامي الكبير تلك الثنائية الممثلة للشخصية ثنائية الأقانيم المتصارعة من أجل الظهور للمرة الثانية بعد نور النديم/ حسين الدرغامي ، غراب فنجان القهوة و اختزال مصيره لمصير البطل /الراوي ، عالم الغجر وشخصية نفيسة السحارة و السيد عبد المتعال .

والتقنية الثانية لغة توراتية رصينة قريبة جدا من الترجمة العربية للعهد القديم كفصول ” أسعد النديم ، نور النديم ( سفر محذوف من توراة القرية ) …فهاهو الأب نايل النديم يدعو في السحر لولده أسعد، ولكن ملاك الدعوة يخطأ فيحسب سعيدا أسعد، فحينما لفحته الحمى تدثر بثوب أسعد ، فينال سعيد بركة أبيه وتحكي التوراة قصة مشابهة؛ قصة كيف نال يعقوب بركة أبيه لتخطأ العيص و تصيبه.

وحينما تتمكن الأساطير المؤسسة يكون الروائي القدير قد تمكن في الهيمنة تماما على ذهنية المتلقي يصب ألحانه وخمره كيفما شاء ، وعلى خلق منطق الرواية الخاص بعالمها المتفرد ؛ بلغة ملحمية بليغة تطغى الشاعرية عليها في مواضع كثيرة هي في أمس الحاجة إليها فلا تراها معرقلة لسيرورة الأحداث نحو ذروتها المبتغاه.

هل هي رواية مكان تعود الأحداث و الشخصيات منها وإليها، تحلق في سمائها، وتنساب مع نسيمها ، وتعيش كقراميط ترعتها متخفية تارة ظاهرة أخرى ؟! فيبني” محمد عمرو الجمال” عالمه في قرية نائية على “شمال السما” متدثرة هنالك بأشجارها وحقولها وعالم فلاحيها الملغز. هي في صراع مع العاصمة ومع ذلك وعلى الرغم من بساطة تركيبها الظاهر فهي تحمل من الأسرار التي تعجز العاصمة عن حملها فضلا على فهمها واستيعابها . وهي مع ذلك ملجأ آمن للسادة كبراء العاصمة و المسيطرين على مقدراتها، هي كما قال “أسعد النديم” من سيطر عليها سيطر تبعا لذلك على العاصمة .

فطنت شخصيات الرواية لذلك فتصارعت بخلفياتها وظروف تنشأتها المتباينة لتنقسم لمعسكرين؛ الأول مسيطر مهيمن حريص كل الحرص على بقاء الأمور على حالها ليؤسس لسطوة واستبداد يملك كل المقدرات المادية ومعسكر آخر تم إقصاءه عن عمد بعد إجهاض حلمه وإلحاق الهزيمة الكاملة به ممن يملكون الثقافة والمعرفة وحلم التغيير بكل عيوب و آفات وقيم ومبادئ البرجوازية الصغرى ، يهرعون من الميادين المجهضة بالعاصمة إلى كوخهم الطيني القروي بالقرب من ترعة الجن ، تتسرب حكاياتهم مع نفثات دخان الحشيش المتصاعد للسماء لتغيير قدر القرية و من ثم العالم ، وكان سلاحهم الحكاية.

فهل تنحاز الأقدار حينما يصل الصراع لذروته إلى “عزبة المجنون ” و”ضريح نور النديم” هذا الحل الهروبي من شكل القرية الحديث المشوه بخرساناته القبيحة وضجيج تكاتكه وميكروفونات مساجده العشوائية، أم للصراع المباشر مع زعاماته شديدة السطوة والبأس …نعم فشلت محاولات الاحلال وتبديل المواقع بسقطات الشخصيات الحالمة الجديدة المريضة بأمراض الطبقة الوسطى من أنانية وتردد ، بالرغم من انحياز السلطة الشابة الواعية المتمثلة في ضابط المباحث “طارق الشاذلي” لتختفي شخصية “حسين الدرغامي” لتحل محلها شخصية ” نور النديم ” في أجواء بوليسية لاهثة وتبقى شخصيته متمثلة هائمة في أجواء “عزبة المجنون” وينكسر حلم “أحمد الجنوبي” و يتوه “شوقي العبد” في عالم من الدروشة بعد تلبسه بعقدة الذنب .

ولكن تتغير القرية بفعل الحكايات لم تعد تنحني كما كانت لكبيرها، لم تعد تعتمد على حلول من شخوص غارقة في الأحلام الزرقاء زرقة دخان سيجارة الحشيش.

لم يكن انكسارا تاما ولا انتصارا تاما ، لم تفلح الثورات في خلق مجتمعات جديدة على الأقل في عالمنا العربي ، فلم يعد من حل لأزمة الواقع سوى التدرج المتسرب للعقول كحكايات الكوخ الطيني ليحدث التصالح أخيرا فترى ممثل السلطة “طارق بك الشاذلي” يحرض الراوي البطل على تكرار التجربة الأقل كلفة والأكثر نجاحا ” بوسعك أن تبقى سيد الحكايات في تجرد من الأسماء والهوية، لا هذا ولا ذاك، فمازالت في بلادنا قرى كثيرة يطبق على أنفاسها ألف غول مثل أسعد النديم ، ومازال ألف نور النديم مقتول ويطالب عفريته بثأره ، ستعيش في قرية منها باسم جديد وحكاية أخرى تحكيها ولن يسع ذلك الصوت الذي يتبعك أن يعرف مكانك أبدا ، لأن الأخبار سوف تأتيه من أمصار متفرقة”

مقالات من نفس القسم