أبواب وحيد الطويلة

"باب الليل".. سفينة الجنس و طوفان الهزائم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ياسر عبد القوي

مدخل: قال السورياليون أن الطريقة الشرعية الوحيدة لنقد عمل إبداعي هي صياغة عمل إبداعي مواز.

أكره الكتابات النقدية التي تمسك بعنق (حدوته) الرواية فتفشي أسرارها وتمزق أستارها، ولا تبقي لي كقارىء لم اطلع بعد على العمل الروائي سوى بقايا ميته لحكاية مفضوضة الأسرار، لكنك لا تستطيع أن تفعل ذلك برواية (باب الليل)، ببساطة لا يمكنك أن (تحرق) الحدوته فيها كيفما فعلت، إلا لو سردتها كاملة من أول سطر ﻷخر سطر، وصفها صديق مشترك بأنها : تحكي عن مصير المنفيين الفلسطينيين بتونس، يشبه ذلك أن تصف المحيط بأنه : شوية ميه مالحه.

باب الليل في الحقيقة هي رحله، بل هي الرحلة ذات نفسها، فلا أهمية ﻷين ستأخذك، إنها المسير نفسه لا ما تسير إليه، تترك باب الليل بروايتك انت عنها، بحكايتك انت التي تحكيها وانت تسير عبر الأبواب المتعددة، أيها تختار أن تطيل الوقوف عنده أو الجلوس أمامه، وأيها تختار المروق السريع عبره، لك أن تختار الأبواب التي تشاء لتكون بواباتك انت، هي حكاية المنفيين الفلسطينيين في تونس، وهي حكاية الطبقة البرجوازية المدينية بجنوب المتوسط، وهي حكاية بنات الليل، وهي حكاية المقهى بناسه، وهي حكاية المبدع العاشق بلا أمل، كأن (باب الليل) إعادة اكتشاف لفن الحكي الأصل باللغة العربية (ألف ليله وليله) حيث الحكاية تلد الحكايات وتتقاطع معها وتتواصل وتشير دون إفصاح وتلمح قدر ما تبسط، هو عالم كامل مبني بكليته من الحكايات، بعضها يكتمل أمامك، بعضها يبدأ فلا ترى نهايته، وبعضها تنهيه ولا تدرك بدايته، لكنك تخلق منها جميعا حكايتك أنت الخاصة.

(كل شيء يحدث بالحمام،

حمام المقهى بالطبع).

هكذا تبدأ الرواية، وهكذا تفتح الباب الأول : باب البنات.

هذا كاتب يقدم (خطاب نوايا) قوي منذ الجملة الأولي، يهاجم بقوة وبجراءة وذراعين مفتوحين، يعدك برواية تتدفق كالنهر الجبلي في موسم فيضانه فلا تلكوء عند مقدمات رخوة لتحضير القارىء، ولا تراخي في مخاضات ضحله يعيق تدفق النهر فيها تأملات فلسفية تسكن جملا مطاطه ثقيلة الظل، ستأخذك الرواية في تدفقها الخاطف للأنفاس عبر خمس عشرة بابا لتترك مشبعا حتى العظام بها، بروائحها، ألوانها، بشرها، ضوئها، نسائها، رجالها.

(كل شيء يحدث بالحمام،

حمام المقهى بالطبع).

هكذا، بلا مقدمات، كأنه دخول لمطعم شرقي، تفتح الباب فتكتسحك موجة الروائح الحريفة بكل قوتها، فإما أن تكون من عشاق التوابل الحريفة والنكهات العنيفة وإما أن تخرج مغلقا الباب على الفور وتتناول عشاءا من سندويتشات ماكدونالدز البلاستيكية، فهذا مكان للذواقه فقط.

المقهى، كل شيء هو المقهى، هو المرأة التي ينعكس فيها كل شيء، فلا وجود للعالم إلا بقدر ما تنعكس صورته على المقهى، لا وجود للبشر إلا بقدر ما تلقيهم مصائرهم داخل المقهى.

أو لم تخلق المقاهي إلا لهذا؟

أعترف أنني قارئ عدواني، فأنا لا أسلم عقلي للكاتب أبدا، ولا اقبل (مؤامرة) الحكي بسهوله، ابقي متيقظا دائما، متربصا تقريبا، أتحين أخطائه وأتصيد هفواته، الرواية تتفجر وصفا، وصفا يصل لدرجة الشبق بالتفاصيل، تفاصيل البشر، تفاصيل الحركة، الأفعال، الكلمات، وصفا يكاد يصرخ من الحسرة ﻷنه لا يستطيع أن يحول الكلمات لماده، للحم ودم يتنفس ويُلمس

لكن…أين المقهى؟

أين وصف المقهى؟ وهو البطل الرئيسي المحوري، وهو المرأة التي ينعكس عليها العالم، كيف فاته أن يصفه؟ تلك خطيئة لا تغتفر، أمسكت به أخيرا (بابتسامة أنتصار شريره).

في مكان ما بصفحة 82 من الرواية، لابد أنني انفجرت ضاحكا وقد اكتشفت أنني وقعت بفخ الكاتب  بدلا من أن يقع هو بفخي، بداية علي أن احدد كيف تشبه (باب الليل)، إنها تشبه لوحات سقف كنيسة سيستين لمايكل أنجلو، في ذلك العمل الملحمي الأسطوري الأبعاد لا وجود لشيء تقريبا سوى للأجساد البشرية، لا أثاث ولا ديكور ولا حيوانات ولا أشجار ولا مباني، حتى الملابس لا توجد إلا كامتداد للبشر ، هكذا هي (باب الليل) عالم مخلوق كله من البشر، وعليه لا يمكن أن نرى المقهى إلا عبر البشر، عبر (سفيان)، عشق سفيان الخائب ل (دره)، المقهى كمبنى هو سفيان ودره، بل هو المعادل المعماري لجسد (دره) هكذا جعله سفيان، المقهى نفسه بكل تفاصيله المعمارية هو جسد امرأه وإن كان من حجر، هنا نأتي للأيروتيكيه، أيروتيكية (وحيد الطويلة) الخاصة ، ذلك الاحتفاء باحتشاد الجسد الأنثوي، الجسد قائم بذاته وفي ذاته، بكل تفاصيل ممكنه، بكل تنوع محتمل، جسد مترع ، وحشي، مراوغ، غاو، عصي ومستباح معا، وإن كنا نرى العصيان ماثلا والاستباحة مفترضه، فهو لا يستباح أمامنا أبدا، يبقى ممجدا ، ساميا، كأنهن كاهنات عشتار ، أمازونيات الجنس اللواتي يخضعن الرجال ولا يخضعن لهن، حتى الأجساد، كلها قويه، عفيه، متوهجه، بريه، مثيره، مشتهاه، لا جسد سقيم أو باهت أو مترهل…سوى أجساد الرجال، أجساد هؤلاء المتروكين، المناضلين القدامى المنفيين في (ديسابورا) المقاهي التونسية، أﻷوديسيين الجدد العاجزين عن الإبحار لشواطئهم، تبقى حكايتهم اللحن الأساسي للرواية، لا تغيب ولا تندثر، هي المدخل تقريبا لكل باب أو المخرج منه، هذا المصير الشبيه بمأساة أغريقيه، يمنح الرواية نكهة شجن والم لا يمكن تجاهلهما، شجن والم ينعكس على كل الأشياء، حتى على الأجساد الشبقية العفية، فهذه ليست جنة الخلد ولا هن حوريات، هذه منطقة منسية في مكان ما بين الفردوس والجحيم، (مطهر) منسي لا فكاك منه ولا رحيل، مهما تخيل قاطنوه الخروج والرحيل، هذا هو نهاية الدرب، فلا مخرج، لا شيء عظيم يحدث هاهنا، ولا حدث مفارق، هو الشرق الأوسط، حيث كل شيء باهت ورمادي وفاتر تحت الغلاف المبدئي اللامع الألوان والموحي بالحرارة، حتى (ثورة تونس) لا تنعكس سوى كظل باهت بارد على المقهى، وبالتحديد (في الحمام) حيث تستقر صور الزعيم المخلوع ببساطة ودون دراما كبيره، مجرد صورة مكسورة منسية بانتظار إصلاح لن يحدث أبدا، انعكاس بارد وباهت، لحدث بارد وباهت تم تحميله فوق ما يستحق تاريخيا وفعليا، نهاية غير متفائله، لكنها ليست محبطة ولا مهزومه، فلا هزيمة ولا إحباط بالمقهى، فهاهنا لا شىء سوى دوران عجلة الحياه التي لا تعبأ بشىء ولا تهدف لشىء سوى أن تدور وتستمر.

في حكاية من حكايات ألف ليلة وليله تترك بنات الجن البطل في القصر ذو المئة باب، مانحات إياه كل المفاتيح، مع تحذير انه مسموح له بفتح 99 بابا فقط، ومحرم عليه الباب المئة، (باب الليل) هي هذا القصر المسحور، لكن بلا أبواب محرمه، اللهم إلا أبواب القارىء الذي عليه أن يتعلم فتحها وهو يمر عبر أبواب وحيد الطويلة.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم