آمال نوّار في «امرأة الأدغال»: شَفافية الزجاج وتلبّد الأدغال

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 14
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

باسم المرعبي

وأنا أوغل في قراءة الديوان الثالث للشاعرة اللبنانية آمال نوّار «امرأة الأدغال»، وجدت أكثر من سبب لأن أتمثل الشاعرة أو أُشبّهها بسمكة في أكواريوم، وعلى غرابة هذه الصورة كما تبدو للوهلة الأولى، فضلاً عمّا يشوبها من مسحة حزن، إذ أنّ الأكواريوم ليس سوى محجر زجاجي. غير أنّي لم أجد بداً من تشبيه كهذا، فقصائد الديوان لا تنفكّ تؤكد، قصيدةً إثر قصيدة، وصفحةً إثر صفحة، وسطراً إثر سطر، هذا الاستنتاج أو هذه الصورة. وأولى علامات الأكواريومية ـ إن صحّ المصطلح ـ العُري الذي بدت عليه الشاعرة، لا عُري الجسد بطبيعة الحال، وإنما عري الأحاسيس وعري البوح بما أذاعَ هذا من شكوى وتذمر وضجر وضيق وندم وفقْد واغتراب وتضييع وتوق ورغبة ونقمة وبكاء أحلام موؤدة، مما يُستشف منه إحباطاً ضارباً وخيبةً بكلّ ما يُحيطها حتى ليمكن تسمية الكتاب، لفرط رثائيته الأشياء ونقدها، بمعجمِ خُسران. والشاعرة هي رهينة مِحبسها الزجاجي، وبإرادتها، ما يُتيح النظر إليها عبر أكثر من منظور واستقصاءَها في كل الحالات، أي حالاتها، حيث كلّ شيء يجري تحت أنظار القارئ، كل حركة، كل خلجة، كل استكانة وكلّ نفَس، بل حتى المضمَر يمكن تبيّنه، فجسد الشاعرة ذاته بات شفافاً بدوره.

وإذا كان الشجن أو الشأن الشخصي مترجَماً بصوت الأنا في غالب الديوان، ما يُحيل أيضاً، إلى همّ لا يَغفل اليومي، في فُتات تفاصيله، الشيء الذي يثير، إلى حد ما، دهشة القارئ الذي يرى في الِالتفات إلى «غبار» اليومي ما يتنافى، أولاً: ومسار «التحليق» الذي اختطته الشاعرة وعوّدت قارئها عليه في مجمل قصائدها؛ ثانياً: ما يتنافى، أيضاً، ومتانة لغتها وفخامتها، كدأب الشاعرة في كلّ ما كتبت.

المسألة الأخرى التي تعزّز من اِنطباع الدهشة حيال لجوء الشاعرة إلى معالجة «اليومي»، هو ما أوحى به تناولها ثيماتها، وذهابها إلى أصول الأشياء، في «أقانيمها» الأساس، لا فروعها، انطلاقاً من رؤيتها و»فلسفتها» إزاء الحياة والموت، الحب والجسد، الوحدة والعزلة، اليأس والحلم، لكن لا بمعنى التجريد، بل بما هو ملموس لأنه نتاج تجربة حية سواء على صعيد المعيش أو الكتابة، ليستشعر القارئ، تالياً، وبالضرورة، حيوية كلمتها من جهة وإيمانها بها حتى النهاية، من جهة أُخرى، كمعادل للخراب الذي تَشهد. فالكلمة هي أداتها الأولى في مواجهة العالم، حتى وإن من دون نشدان خلاص، ربما من هنا يأتي الإحساس بأنّها لم تكن تعالج سوى موضوعة واحدة طويلة تفشّت في جميع مساحات قصائدها، بجذور ناشبة في أرض سوداء، وأفق أسود لا يُنبتان سوى الغياب والقُحول، بالنتيجة، وهو ما أعطى الكتاب هويته وصبغته حتى النهاية.

من هنا فإنّ تبويبها الديوان وجعله بخمسة أقسام معنونة، كالتالي: جرس الليل، صحراء بلا قمر، قبور بعيون مفتوحة، تحت عجلات الأبد، وغبار الشمس؛ لم يكن له من ضرورة، ربما إلّا ضرورة جمالية أو التخفيف عن القارئ كثافة القصائد ووطأة كثرة اللغة. وبالعودة إلى الفقرة السابقة بصدد أجواء الكتاب وما اصطبغ به، تقول في قصيدة بعنوان «الثقب الأسود»:

“أحيا الموتَ، كما لو ثقبٌ أسود يبتلعني

تراني شاحبةً، وبكثافة ظلّ أعبرُ أيامي كالسّحاب،

كأني ضوءٌ أسودُ أتوهَّجُ بالأسى

ولا تفلتُ من يدي نار

ولا من عيني زنبقة

…………

أعرفُ فداحةَ وجودي من شدَّة الإِمّحاء

مثلما تُعْرَفُ النّيازكُ من عُمق الحُفَر”

ولم تكن القصائد بأكملها لتحيد عن هذا «النهج» القاتم، وهو يتخذ له طريقاً قاسياً في عمق أدغال الشاعرة، أدغال يمكن تعريفها كمرادف لاشتباكات النفس، والتفافاتها ووعورة مسالكها وانحجابها، حيث عتمات تُسلم إلى عتمات، بما يذكّر بالهاوية وهي واحدة من مفردات الخُسران الأثيرة لدى الشاعرة، ومن جملة مترادفات لا نهائية في قاموسها. ومع كل هذا التفجر الوحشي للحزن والوحدة والفقدان والغضب والِانكسار والجوع قلباً وجسداً واليباس والرفض للعالم بما هو عليه من صورة قائمة قاتمة، فلا غرابة إن لا يزهو عشب في صفحاتها، وإذا حدث ففي مقبرة ـ حسب الشاعرة ـ ولا ضوء يبرق على امتداد الكتاب سوى ما جاء في الكلمات العشر الأخيرة منه وهو عدد مفردات القصيدة التي اختتمت بها كتابها، وعنوانها «صلاة». وهو توقيت مقصود، كطلب مغفرة بعد خطيئة، كضوء في آخر النفق، وعلى ندرة مثل هذا الضوء الذي لم يتحقق بعد، إلّا ككلمة مُدرجة في اِلتماس، وحتى في هذا الِالتماس أبتِ الشاعرة أن يكون الضوء كاملاً. ومن المهم هنا الِانتباه إلى أنّ الشاعرة طلبت أن تحيا في «النور» وليس في الضوء، لما للأول من بعد روحي، فضلاً عن درجة سطوعه بالنسبة للضوء، وهو ما يفصل فيه القرآن: «هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً». يونس: 5. ولا يريد المقال الإيغال بعيداً في تبيان ذلك:

“إلهي، علِّمْني كيف أحيا في النّور

من دون أن أُرَى”.

وهكذا فرجاء طلب النور في الشطر الأول يكاد يُنقَض في الشطر الثاني منه، إذ غايتها أن تحيا من دون أن تُرى، أي دون أن تنكشف، وإن كانت رؤية كهذه لا تخون تطلّع ونهج مَن هي «قديمة في وحدتها» أو مَن تجتهد لأن تكون «عزلتها فولاذية»، وبهذا يَؤول ما يُظنّ، بدايةً، كضوء تام، إلى بقايا ضوء فقط، بفعل التخلّي عن مشاركة الآخرين وليمة الحياة، مهما احتمل مثل هذا التوصيف، القابل للتضاد، من سلب أو إيجاب في الوقت ذاته. بذلك أرادت الشاعرة، في آخر سطر لها، تذكير القارئ، من جديد، على الرغم من أنّ ذاكرته لم تجفّ بعد من آثار كلماتها، بصلادة جدران عزلتها وإحكامها حدّ تعذر النور الذي طلبته من التسلل عبرها.

وإذا ما استدعينا عنوان الكتاب ثانيةً، هنا، بأدغاله فنعرف أنّ الخيار كان قد حُسم، سلفاً، بالتواري في «مجاهل» هذه الأدغال: أدغال الخارج، المفترضة، بدافع من أدغال الداخل. وبتجاوز الاحتفاء بنثار الهمّ اليومي، لدى الشاعرة، أو النزوع إلى ما هو رومنسي، مع الإقرار بضيق الحيّز الذي احتلته انشغالات كهذه، فقد بدا مأزق الشاعرة، إجمالاً، مأزقاً وجودياً، محاصَراً بالأسئلة الكبرى أو طالعاً منها، وإن لم تكن هذه مطروحة أو معروضة بالمعنى المباشر. على أن ذلك لم يكن ليتناقض ونزعة البوح والدأب على استنطاق الذات، وهو يعود إلى مقدرة استثنائية على التنقيب في الدواخل وسبرها، وصولاً إلى استعراضها في ما يشبه انفجار اعترافيّ. بهذا تعدّت الكتابة الشعرية، هنا، حالة تدوين سيرة ذاتية داخلية إلى دراسة وفحص موسّعين للأعماق، تنقّيباً في كل شيء وتقلّيباً لكلّ شيء، وكأنّ الشاعرة بصدد تقديم كشوفات شاملة عن النفس والجسد، ماضياً وراهناً وما سيؤولان إليه، مستقبلاً. وبطبيعة الحال، ومثلما هو متوقّع، فإنّ كل ذلك يُبسَط على مهاد قوامه التصحّر، والنضوب:

«تقلُّ الأشياءُ من حولي يوماً بعد يوم،

تقلُّ الأرضُ،

في عيني المكشوفة تماماً»

 

أو قولها الآخر:

«أيكفي أن ننامَ في التُّراب لنصيرَ غياباً؟.»

وليس الاستشراف أو الحدس وحده دليل القارئ إلى طبقات خزائن الشاعرة، بكل ما انطوت عليه وبكل ما تراكم فيها، بل أيضاً بما أقرّت به ووقّعت عليه بأصابعها ذاتها، باِقتصاد حيناً وبإغراق حيناً آخر، تبعاً لطبيعة الموضوع أو حساسيته. وعند هذا الأخير تكتفي بالتلويح بومضات سريعة تضيء بشكل خاطف، دون إبهام، أحياناً، وحدات كاملة كُتبت بالمحو، ليعيد تشكيلها القارئ، وفقاً للمفاتيح المتاحة. إن هذه الحيطة هي ما تتطلبه عادةً القصائد ذات الصبغة الإيروسية، أو الثيمات المتاخمة لذلك، لتكتمل قراءتها بالعثور على الجزء/ الأجزاء الممحوّة فيها.

«بينما بئري تواصل الغرق

أنا التي تلقّن البحار الظمأ،

وتحت الشمس

قلبي نقطة شبق».

وعلى الرغم مما ذهب إليه المقال ونوّه به عن طبيعة ونوع الموضوع المتسيّد في الديوان ونوع المعجم الذي تنتمي إليه مفرداته الرئيسة، يبقى من الضروري القول أنه مهما اتخذت الشاعرة من وجهة في قصائدها ومهما تكاثفت طبقات المعنى الواحد التي يمكن الخلوص إليها في الديوان، تبقى الِاحترافية في الكتابة هي العلامة الفارقة فيه بعد ديوانين يعطيان الانطباع ذاته، على ما يعنيه ذلك من فارق زمني بين الكتب الثلاثة. وأخيراً تلزم الإشارة إلى أن التناوب على استخدام مفهومي «الديوان» و»الكتاب» في المقال تمّ عن قصد.

 

آمال نوّار: «امرأة الأدغال»

دار الفارابي، بيروت 2018

212 صفحة.

………….

*عن “القدس العربي”

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون