آذر نفيسي: الثورة الإيرانية لم تستوعب أن التدين أمر طبيعي لا يمكن أن يجبر عليه أحد

آذار نفيسي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مؤلفة أن تقرأ لوليتا في طهران وأشياء كنت ساكتة عنها

  • حين قرأت محفوظ وعمارة يعقوبيان كنت أرى الكثير من التشابه مع إيران
  • كلما وجدت مكانا تدور فيه لغة الأدب وجدت فيه بشرا أنتمي إليهم
  • الطلبة في إيران كانوا يرهبون السلطة بما فيها سلطة المعلم

أجرى الحوار في الكويت: إبراهيم فرغلي

بالرغم من الاهتمام الكبير الذي صاحب صدور كتاب “أن تقرأ لوليتا في طهران”، للكاتبة الإيرانية الأمريكية آذر نفيسي، فور صدوره في العام 2005، إلا أنني لم أقرأه إلا لاحقا بعد صدور الترجمة العربية له، ثم قرأت مذكراتها عن أبيها وعائلتها في كتابها اللاحق “أشياء كنت ساكتة عنها”، وقد استفزني الكتابان منذ قراءتهما، وكتبت عن كل منهما مراجعة نشرت على صفحات الأهرام. الاستفزاز، بالمعنى الإيجابي، لأسباب عديدة أولها الفكرة التي تأسس عليها بناء أن تقرأ لوليتا، والتي تمثلت فيما يشبه يوميات مجموعة قراءة سرية تشكلت من نفيسي، بوصفها أستاذة أدب، ومجموعة من طالباتها في الجامعة، بعد أن أوقفتها الجامعة عن التدريس لإصرار الإدارة لأن تخضع كل عضوات هيئة التدريس لوضع الحجاب، ورفضها لذلك وتفاصيل أخرى كثيرة لها علاقة بطبيعة الفترة التي أعقبت وصول الخميني للحكم، وإعلان الجمهورية الإسلامية، ففكرة الكتاب قامت على اجتماعات الطالبات مع السيدة نفيسي في منزلها أسبوعيا لمناقشة مجموعة من كتب الأدب الإنجليزي والأمريكي. وينتقل الكتاب بين تفاصيل النقاشات ومدلولها على الشخصيات وعلى الكاتبة، ومنها تلتقط الخيط لسرد سيرتها وسيرة طالباتها وسيرة المجتمع. تفعل ذلك بحساسية شديدة وبأسلوب رفيع المستوى أدبيا. (الحقيقة أنني كنت دونت في هوامش قراءتي لكتابها ملاحظة على مشهد من الكتاب تصف فيه لقاء عابرا، بعد سنوات، مع إحدى طالباتها بالصدفة، ماتت لاحقا، قلت فيها أن هذه السيدة روائية لم تنتبه إلى موهبتها الجبارة).

 ولهذا قرأت سيرتها الثانية التي كانت تتناول فيها سيرة عائلتها، وعلاقة والديها ببعضهما، وتعقيدات علاقتها بأمها، فيما نرى في الخلفية المجتمع الإيراني خلال القرن الماضي، اجتماعيا وعاطفيا ومشهديا وجمال طبيعة، وحياة وذاكرة. ثم جاء كتابها الثالث “جمهورية الخيال” والذي تناولت فيه علاقتها بأمريكا، ونقدها أيضا بشكل ما للأمريكيين فيما يتعلق بعدم اهتمامهم بأدبهم وثقافتهم، وسيرتها هي كإيرانية أمريكية تعيش في مجتمع عرفته قبل أن تراه بفضل الأدب.

حين علمت بخبر حضورها إلى الكويت شعرت بسعادة بالغة للأسباب السالفة، ثم بالإحباط لأن المحاضرة التي كان من المفترض أن تلقيها ألغيت، من دون أسباب واضحة.

لكن، ويا لحسن حظي! رأيتها بصدفة محضة، حيث كانت في زيارة لمكتبة خاصة ومميزة في الكويت هي “مكتبة تكوين”، بدعوة من الكاتبة الكويتية بثينة العيسى، مؤسسة المكتبة بالتعاون مع عدد من الكتاب الشباب بينهم الشاعر محمد ماجد العتابي، وحسين المطوع.

كانت مفاجأة اللقاء بآذر نفيسي مبهرة، فأخبرتها فورا عن رأيي في كتبها، ولم أتردد في اغتنام الفرصة لعمل حوار معها، قلت لها “لصحيفة الأهرام” المصرية، فابتسمت وسألتني بفضول: “أهرام محمد حسنين هيكل”؟ فأجبتها ضاحكا: نعم، فهزت رأسها معلنة موافقتها.

إبراهيم فرغلي وآذار نفيسي

وحين حل موعد الحوار قلت لها:

*لنبدأ من فكرة اهتمامك بالأدب الأمريكي، فخلال قراءتي لـ”أن تقرأ لوليتا في طهران” شعرت باهتمام كبير بالأدب الأمريكي مما كنت تقدمين نماذجه لطالباتك، أو مجموعة طالباتك في حلقات الدرس السرية على حساب الأدب الإنجليزي. أحسست أن هناك نماذج أمريكية تركزين عليها، نابكوف، فيتزجيرالد، هنري جيمس. صحيح أن ثمة إنجليز مثل أوستن، لكن ربما يبدو غريبا بعض الشيء.

** الواقع أن الكتب التي اخترتها للمناقشة لم تكن لها علاقة كبيرة بكونها أمريكية أو إنجليزية بقدر ما كنت أرى أنها تتناسب مع الموضوعات التي وددت أن أطرحها للنقاش مع الطلبة، وبناء على تفاصيل الواقع الذي كنا نعيشه آنذاك حاولت اختيار النصوص الأدبية التي تطرح تلك القضايا، مثل لوليتا، وغاتسبي العظيم، وغيرهما. لكن هناك الكثير جدا من الروايات الإنجليزية التي أحبها جدا بالتأكيد.

* وماذا عن هنري جيمس، بدا لافتا اهتمامك الكبير ليس بكتبه فقط بل وبأفكاره الشخصية.

** أعتقد أن جيمس يعد نموذجا جيدا لفكرة الشخص العابر للثقافات، وكان مهتما جدا بفكرة الهوية، ومعنى أن تكون بريطانيا، وأن تكون أمريكيا من جهة أخرى، وهناك كتاب شهير له عنوانه “الأمريكيون”. وله كتاب آخر بعنوان “الأوربيون”، وقد كنت مهتمة لأن يفهم طلبتي أن الأدب لا يملك حدودا. فقد ولد جيمس جويس في أمريكا، وانشغل بسؤال الهوية، لكنه تأثر بالآداب الشرقية، وكثير من الأدب الكلاسيكي الإيراني مثل أعمال عمر الخيام والأدب الشعبي.

أن تقرأ لوليتا في طهران

* بينما كنت أقرأ “لوليتا في طهران” تملكني إحساس أن السرد المستخدم أقرب لأسلوب روائية، الوصف الدقيق، البناء السردي، وصف الطالبات الدقيق الشكلي والنفسي أيضا، وحتى الفكرة أظنها تصلح لرواية، ولعل هذا ما جعلها مشوقة وممتعة في القراءة رغم أنها تعالج قضايا بعضها بالغ الصعوبة فيما يخص حياة الطلبة والمجتمع عموما. هل ثمة روائية متخفية داخلك؟

** بشكل عام قضيت جانبا طويلا جدا من حياتي أقرأ الروايات والأدب، وأنصت للحكايات والآداب، ولعل هذا ما جعلني أقرب لصياغة ما أود قوله عن الحياة والواقع بشكل يأخذ صيغا سردية أو مستلهما من القصص. ولا أحب الكتابة بالشكل الأكاديمي الجاف الذي يتم فيه تناول أعمال أدبية بطريقة تحليلية فقط، وربما أنني أعشق الحديث عن الروايات والأدب بينما أتناول حياتي الخاصة، ربما لأن ذلك يبين الأثر الكبير للأدب على شخصيتي، أو بالأحرى كيف يمكن للروايات العظيمة أن تغير حياة المرء.

* أعتقد في كتاب المذكرات (أشياء كنت ساكتة عنها) كان لديك أيضا هذه الحساسية في الإمساك بالمشاعر الدقيقة بين الوالد والأم وبين الابنة والأم والأب.

** خلال كتابة هذا الكتاب أدركت كم الأشياء التي لم أكن أعرفها عن أشخاص كانوا قريبين جدا مني، وعن نفسي، وكيف أنني خلال عملية الكتابة نفسها كنت أكتشف الأشياء، وأعرف بعض ما لم أكن أعرفه عن نفسي وعن الآخرين. وحتى فكرتي عن أمي تغيرت، ففي البداية كنت أكتب عن أمي من وجهة نظر فتاة صغيرة في العمر لا ترى في الأم سوى الجانب السلطوي، الأم التي تحاول السيطرة، لكني مع نهاية الكتاب، الذي ينقل أيضا كيفية تغير أفكاري بمرور العمر، وتأثير الزمن فيها، غدوت امرأة ناضجة، وكانت أمي قد أصبحت مسنة، وأدركت حجم المعاناة التي عانتها في حياتها. وبالتالي فلم تكن الذاكرة فقط هي ما استعنت به في كتابة هذه الذكريات، لأنني أعتقد أننا لا نكتب عما نعرف في الحقيقة، بل نكتب عما نود أن نعرفه، وهذا يحتاج للتأمل والفهم والسؤال أو البحث باختصار. 

في هذه السيرة يدرك القارئ كيف كانت إيران بلدا حداثيا متحررا لديه سمات خاصة تبدو اليوم أقرب للأوروبية منها لما نعرفه عنها اليوم. لكن أيضا من خلال هذه السيرة يدرك المرء بشكل ما أنه رغم كل الظروف فإن الشخصية الإيرانية لديها رغبة وربما طبيعة تميل للتفتح أكثر بكثير منها للمحافظة. هل هذه الانطباع دقيق؟

** لدي في خيالي صورة جميلة لجدتي، التي كانت تتمتع بالجمال وتضع حجابا، وتنتمي لكل التراث الإيراني التقليدي، وكنت على النقيض من ذلك أمثل تصورا للمرأة العصرية، شكلا ومضمونا. ومع ذلك فلم نكن نشعر بأي اختلاف فيما بيننا، وكنا مرتبطتين ببعضنا بعضا بشكل كبير جدا. وحتى بعد قيام الثورة كانت تبكي لأنها كانت مقتنعة أن التدين أمر طبيعي ولا يمكن أن يجبر عليه أحد. والحقيقة أن المفاهيم الجديدة التي قدمتها الثورة الإسلامية للمجتمع الإيراني قدمت أيضا للعالم شكلا محددا عن الإسلام. لكن بالتأكيد معك حق في تصورك، فقد كانت إيران مجتمعا حديثا متقدما، لكنهم بعد أن غيروا النظام لم يتغيروا هم أنفسهم وهذه هي المشكلة. واليوم ورغم كل التضييق والحصار، ورغم القيود الكثيرة التي يعانون منها فإن الإيرانيين ليسوا معزولين عما يحدث في العالم، ولم يتوقفوا عن التفاعل مع العالم الذي يرون في أماكن كثيرة منه ما يعبر عنهم في التقدم والعصرية، وهذا من الأشياء التي تدعوني للإحساس بالفخر.

أشياء كنت ساكتة عنها

* في كتابك الثالث جمهورية الخيال..تشيرين فيه أن المجتمعات التي تفتقد للخيال هي التي تحتاج للأدب أكثر من الدول التي تقدم هذا الأدب؟

** في الحقيقة حين كتبت هذه الكتاب كنت قد انتبهت لظاهرة أمريكية غريبة وهي عدم تقديرهم لثقافتهم وأدبهم. وقد كنت في بداية قدومي للولايات المتحدة أشعر بالغضب الشديد لأنهم لا يعرفون شيئا عن الشرق الأوسط. صحيح أنهم يتحدثون عن الشرق الأوسط لكنهم لا يعرفون شيئا. ثم انتبهت لاحقا أنهم لا يقدرون حتى ثقافتهم. وهذا الأمر بدا لي غريبا؛ لأن أمريكا بلاد تأسست على فكرة في الأساس، وعلى أنواع من الفنون، وعلى الأفكار التقدمية والحرية، والآن حين يرى المرء المجتمع الأمريكي لا يهتم بهذا كله، فيبدو الأمر كأنهم فقدوا ذاكرة تخص تاريخا ليس هينا، مروا خلاله بمراحل من الحرب الأهلية التي دفعوا ثمنا غاليا لها، ولكي يأسسوا لاحقا أهم الحركات حقوق المواطنة المدنية التي جعلت هذا المجتمع منفتحا على الثقافات والفنون والأفكار، وحلما للجميع، بينما الآن يبدو المجتمع الأمريكي في حالة انغلاق ومحدودية.

وبالمناسبة فقد أذهلتني النقاشات التي دارت بيني هنا وبين مثقفين وأفراد ممن أتيح لي القاء بهم في الكويت، حول الأدب والروايات وتاريخ الأدب.

* هل هذه زيارتك الأولى لبلد عربي؟ وهل زرت القاهرة؟

** نعم هذه الزيارة الأولى للكويت والمنطقة العربية، سأذهب للإمارات ثم البحرين، وأشعر بالإثارة وسعيدة جدا بما أكتشفه عن الناس هنا في الكويت وعن معرفتهم بالأدب، أما القاهرة فللأسف لم تتح لي زيارتها بعد، لكني التقيت بعدد من الكتاب المصريين في البرازيل، ودارت بيننا حوارات طويلة جدا عن الأدب وعن الكتابة الأدبية وأبرز الكتاب في العالم. لهذا أقول، أن الناس المتحمسون لهنري جيمس لهم الحق في هنري جيمس. ولهذا فسوف يتعلم الأمريكيون أن يقدرون الآخرين من آدابهم وثقافاتهم.

آذار نفيسي

* ذكرت أنك كتبت كتابك أن تقرأ لوليتا في طهران في أحد المقاهي الأمريكية في واشنطن، واسمه بوردرز، وأشرت أيضا إلى ما أسميتيه المكتبات الكهفية؟ ما هي طبيعة هذه الأماكن ولماذا تفضلين الكتابة فيها؟

** “بوردرز” أحد المقاهي – المكتبات. لكن للأسف لم يعد لها وجود الآن في واشنطن حيث أسكن، وعادة ما كنت أذهب لتلك المكتبة لشراء الكتب وتصفحها ثم أجلس بعد ذلك للكتابة، تروق لي الكتابة بين أناس لا أعرفهم، لكن تجمع بيننا الاهتمامات أو حب الكتب على الأقل، لكني أيضا أفضل الجلوس للكتابة في مقاهي المتاحف حيث أختار موضعا قريبا للوحة من اللوحات التي أحبها وأكتب بالقرب منها وكأنها تلهمني.

* ولماذا تختفي المكتبات؟

** الإنترنت في اعتقادي أحد أهم الأسباب، الناس الآن أتاح لهم الإنترنت شراء أي شيء، لكن أعتقد أن السبب الأهم في تراجع المكتبات واغلاق الكثير منها أن الناس بدأوا يفقدون الاهتمام بالواقع من حولهم. هم مهتمون بالفضاء الافتراضي على حساب الواقع. أما بالنسبة لي فالأمر بطبيعة الحال على النقيض تماما، فالكتب بالنسبة لي عشق حقيقي، وأحب أجواء المكتبات ورائحتها وملمس الكتب. أفكر بنوع من الحزن في أن التقنيات الحديثة تعمل على أن تسلب الناس ذاكرتهم. لهذا أتمنى أن يعود الناس للقراءة وللكتب مرة أخرى. وفي الحقيقة فقد شهدت أمريكا خلال السنوات الأربع أو الخمس الماضية موجة جديدة من المكتبات المستقلة التي تبيع الكتب الورقية الأمر الذي أظنه جيد جدا.

* بفضل خبرتك الأكاديمية بالتدريس في إيران ثم في الولايات المتحدة، هل ثمة اختلاف بين الطلبة هنا وهناك؟

**الحقيقة أن خبرة التعليم بشكل عام بها شيء جميل بالنسبة لي وهو الشغف والتعلم المتبادل، فخبرتي في تعليم الأدب قدمت لي الكثير من الخبرات، وتعلمت بدوري من طلبتي الكثير. لكني كنت ألاحظ أن الطلبة في إيران كان لديهم حماسا وشغفا استثنائيين، والكثير منهم لم يكونوا من سكان طهران وكانوا يأتون من ضواحي ومدن أخرى قريبة لكي يدرسوا الأدب بشغف. لكن في أمريكا الوضع مختلف، فالأدب الكلاسيكي بالنسبة لهم يعد أدبا له طابع مدرسي لأنهم درسوه في التعليم الثانوي، ولا يجدون ما يحفزهم لإعادة قراءته. لكن ما أحببته في الطلبة الأمريكيين أنهم كانوا شديدي التفتح، ويتمتعون بعقليات حداثية ولا يتعاملون معي كسلطة، أو يرهبونني. بينما في إيران كنت أبذل جهدا خارقا لكي أمنح طلبتي الإحساس بأنني لا أمثل سلطة من أي نوع، لأن المعلم بالنسبة لهم بشكل عام يمثل سلطة ما، ولو حتى ضمنيا. وهم يشعرون بالرهبة من أي سلطة، كانوا يخافون من انتقاد الكتب التي أختارها لهم، ولهذا بذلت جهدا ووقتا طويلا حتى تمكنت من إقناعهم أنني مهتمة بما يرونه هم في الأدب والنصوص التي نقرأها أو ندرسها، وقد حدث ذلك بعد وقت طويل.

* هل اختلفت المعايير التي اخترت على أساسها الروايات التي تناولتها في “أن تقرأ لوليتا في طهران” اختلفت عن تلك التي درستها وقرأتها للطلبة في أمريكا؟

** في أن تقرأ لوليتا اخترت كتبا تشرح كيف كنا نشعر خلال الفترة التي كنا نعيشها في إيران خلال الثورة. في “جمهورية الخيال” أوضحت أنني أحببت أمريكا قبل أن أراها بسبب أدبها وروايات كتابها، والأمر المثير للانتباه أن روايات أمريكا وخصوصا الكلاسيكية أغلبها كانت لها روح ثورية؛ فإذا قرأت على سبيل المثال مغامرات “هكلبري فين” لمارك توين، والتي تعود لعام 1884، ستجد بطلي العمل “جيم” و”هاك” من أفقر وأكثر فئات الشعب انتماء للهامش، لكن مارك توين وضعهما في موقع الأحداث الرئيسة، وكانا يمثلان الطبيعة الإنسانية. وأردت أن أناقش ذلك مع الأمريكيين، وهي الكيفية التي طرح بها الأدب الأمريكي التناقضات الاجتماعية، بعيدا عن السياسة، وكيف قدم أسئلة عميقة جدا حول هذه الظروف والتغيرات الاجتماعية. كما أن الروايات الأمريكية تعلمنا معنى الديمقراطية، ولو أن هذه سمة عامة لكل الروايات في الأساس، لأنها تتضمن فكرة تعدد الأصوات. وربما تسمح الروايات العادية لأصوات عديدة أن تعبر عن ذاتها، لكن الرواية الجيدة هي التي تسمح للجميع، بما فيهم صوت ممثل الشر، أو الشخصيات ذات الدوافع الشريرة في العمل، لأن يسمع الآخرون صوته من منطق روائي. ولهذا السبب أدعو دائما الناس للقراءة لأنها تتيح الإنصات لكل تلك الأصوات التي قد لا تتوفر لنا فرصة الإنصات إليها في وسيلة أخرى.

* هل قرأت الوصمة البشرية لفيليب روث؟

** بالتأكيد، منذ وقت طويل. أنت تسألني عنها لأنها تمثل نموذجا لما أطرحه؟

* صحيح.

** نعم بالتأكيد معك حق، هي نموذج جيد جدا للرواية الديمقراطية. ومن المشاكل التي توجهني دائما كيف يمكن أن أختار كل هذه الروائع الأدبية لكي أدرسها لطلبتي؟ فثمة عدد هائل من الكتب الجيدة.  لكن بشكل عام حين أشرع في تعليم معنى الأدب فإنني عادة ما أركز على عملين أساسيين هما شهرزاد أو ألف ليلة، وألس في بلاد العجائب، لأن شهرزاد تكشف للقارئ أنه لكي ينجح شخص في تغيير وجهة نظر شخص آخر فلا يمكن أن يحدث ذلك بالعنف. لقد كان الملك شهريار نموذجا للعنف، وكان يقتل النساء بسبب تسلط الأحادية الذهنية على فكره، لأنه تصور أن النساء كلهن خائنات، لكن شهرزاد من خلال الحكي، تمكنت من خلق الفضول لديه، وإثارة السؤال عما ستؤول إليه الأحداث، وبالتالي نقلته إلى موضع أفكار بطلات وأبطال الحكايات، حتى تبين أن النساء لسن جميعا خائنات. كما تبين له أيضا أن الملوك ليسوا جميعا أوفياء، بالإضافة لأنه وجد في حكايات شهرزاد له لونا من العطف، وهذا ما أبدأ لكي أوضح به أمر الأدب لطلبتي، الأدب ليس من مهامه الحكم على الآخرين، بل فهمهم. وكل روائي عظيم، كما كل قائد عسكري عظيم، يعرف جيدا أنك لكي تهزم العدو فعليك أولا أن تتحلى بالفهم، أن تعرف عدوك كما يقال.

* وماذا عن ألِس؟

** ألِس استثناء، لأنها لم تكن راضية عما يتوفر أمامها، لكنها امتلكت الشجاعة لكي تذهب خلف الأرنب وتلقي نفسها في الحفرة. فمن غيرها يفعل ذلك؟ سوف تجد الكثير من الأكاديميين في الولايات المتحدة وربما في مصر أيضا، لا أعرف، ممن يتحدثون عما يتوقعونه من الرواية، والذين إذا لم تتطابق الرواية مع توقعاتهم فإنهم يرفضون النص. وهذا بالضبط ما أجده مختلفا لدى ألس، فهي لم تكن لديها أية توقعات عما يمكن أن يكون موجودا في الحفرة، لكنها كانت تمتلك الرغبة في المعرفة، وهكذا قفزت وألقت نفسها في الحفرة. وحين بدأت في رؤية الكائنات المختلفة بوغتت أن أسئلتها قد لا يكون لها إجابة بالضرورة لأن الكائنات الأخرى لها أسئلتها أيضا. فحين سألت اليرقة: من أنت؟ كان رد اليرقة هو: بل من أنت؟ لأن هذا هو دور الرواية في الحقيقة: طرح الأسئلة من خلال الشخصيات. ورغم دهشة ألس أنها أصبحت بطول 3 بوصات فقط، إلا أن هذا الأمر لم يكن غريبا بالنسبة لليرقة لأنه هذا هو نفس طولها كذلك. وحين عادت أليس من عالم الخيال بدأت ترى الواقع بشكل مختلف. كأنما كل شيء قد أصبح جديدا بالنسبة لها.

* كتبت كل هذه الكتب في أمريكا، فهل تشعرين باختلاف في طريقة تلقي كتبك في كل من إيران وأمريكا؟  

** الحقيقة أنني حين كتبت أن تقرأ لوليتا أصابتني الدهشة، فقد كانت لدي رغبتين: التأكيد أن الصورة النمطية الشائعة عن إيران في أمريكا غير حقيقية ومختلفة، وأن هناك أفراد كثر رائعون وموهوبون ولديهم حياتهم وتصوراتهم عن العالم، كما أردت أن أقول إنه كيف يمكن للأدب في زمن القمع أن يكون مفتاحا للأبواب، وكيف أننا بفضل الأدب العظيم يمكننا أن نقضي أوقاتا تتحلى بنقيض ما كان يسود الأجواء في بلادنا. وقد وصلت الرسالة في الحقيقة للقراء وهذا أذهلني. كان القراء والقارئات يأتين إلي ويسألنني عن شخصيات الكتاب وعن الطالبات وعما آلت إليهن مصائرهن. وعلمت كذلك خلال وجودي هنا أن الكثير من القارئات ألهمتهن فكرة الكتاب وأقمن حلقات لقراءة الكتب بأفق متفتح، وأن الأمر غير حياتهن بشكل ما.

* وماذا عن جمهورية الخيال؟

**في الحقيقة هذا الكتاب أثار غضب الكثير من الأمريكيين، الذيم لم يقبلوا فكرة اتهامهم بعدم تقديرهم لأدبهم وثقافتهم، كما أثار أن تقرأ لوليتا غضب الكثير من الإيرانيين أيضا الذين اعتقدوا إنني انتصر في كتابي للغرب وللثقافة الكولونيالية على حساب الثقافة الإيرانية، والحقيقة هي غير ذلك بالتأكيد، واستشهادي بالأدب الأمريكي وانتقادي لما كان يجري في بلادي لم يعن أبدا أنني أؤيد سياسات أمريكا. فعلى الصعيد السياسي أنا ليبرالية، وأعارض الكثير من سياسات أمريكا، وهذا ما قلته في محاضرات عامة كثيرة في الولايات المتحدة بدء من مناهضة الحرب على العراق ووصولا لنقد ممارسات السيد ترامب. لقد أكدت ذلك كثيرا وأعلنته في مناسبات عامة مختلفة، لكن الثقافة أمر آخر في تقديري، فالثقافة مسألة تتعلق بالحرية، والأدب بشكل خاص هو موضوع يتبنى فكرة الآخر وفهم الآخر. وأظن أن الأمر سيكون مملا إذا اقتصر الأدب على الحديث عن الذات فقط من دون الانتباه للآخر. هذا هو الأمر، ولهذا فقد تسببت كتبي في غضب بعض الإيرانيين وكذلك بعض الأمريكيين. لكن الكثير من الأمريكيين أيضا أبدوا تفهما لوجهة نظري حول أمريكا، وبعضهم كانوا يأتون لي عقب المحاضرات ليتحدثوا معي، قائلين إنهم أمريكيين منذ ميلادهم ويتفقون مع ما أراه حول بلادهم، وأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون. كانوا يأتون لي ويسألون ماذا نفعل؟ ولذلك يدهشني باستمرار كيف تخلق الكتب الروابط بين البشر وبين الثقافات المختلفة، وأيا كانت جنسياتهم، فأينما ذهبت إلى مكان تدور فيه لغة الأدب إلا ووجدت بشرا أنتمي إليهم. ولهذا في أمريكا أشعر أنني في وطني من خلال علاقتي بالقراء.

* ما هو مشروعك الجديد؟

** الكتاب الذي أعمل عليه الآن حول كيفية فهم الشخص الذي تتصور أو يفترض أنه عدو لك. ‏ موضوعه يدور حول كيفية تجنب الحروب، فعلى مدى السنوات الطويلة التي دارت خلالها الحرب بين العراق وإيران كنت أتساءل عن مسار تلك الحرب وما يمكن أن تؤدي إليه، وحين كانت الإذاعة الإيرانية تعلن عن انتصار هنا أو ضربة هناك، كنت أقول لنفسي أن عائلة مثل عائلتي تعيش في العراق لا بد أنهم قد تعرضوا للموت الآن. ولذلك فحين بدأت الحرب الأمريكية في العراق كنت أتساءل إلى متى سيظل العراقيون يعانون من الحروب؟ والآن أيضا لا يزالوا يعانون. في الحقيقة أشعر بقربي من العراق كثيرا، وفهم طبيعة ما يشعرون به أيضا، رغم أننا خضنا معهم حربا في السابق. وعلى الرغم من أنه لم يسبق لي زيارة العراق إلا أنني أشعر أنني أعرف الناس هناك جيدا.

فكتابي إذن عن العدو، والتفكير فيه كآخر، ولذلك سوف أستعين فيه بنماذج أدبية تتناول الموضوع بشكل ما، وقد تعرضت كثيرا في جمهورية الخيال للكاتب الأمريكي جيمس بالدوين، ولعلني أيضا قد أبدأ الكتاب الجديد به، لأن بالدوين تناول فكرة العنصرية في أغلب أعماله، وكان يردد أن مظاهر العنصرية التي يتعرض لها الشخص ليست في قدر خطورة الكراهية التي تتخلف عن العنصرية. ولدي أيضا بين النماذج التي سأستعين بها أعمالا لمارجريت أتوود، التي تعرضت لموضوع التوليتارية والمجتمع، وكذلك لدي كتاب يجمع نصوصا لكاتب إسرائيلي اسمه دافيد جروفس، وهو معروف بانتقاد إسرائيل، وكذلك لديه إصرار على نقد عدم معرفتها بالآخر، أي الفلسطينيين ومحاولة نزع الإنسانية عنهم. ومع هذا الكتاب أتناول أيضا نصا مسرحيا لكاتب فلسطيني هو أمير نزار الزعبي، تتناول مسرحيته وعنهوانها (الصخرة الرمادية) قصة مُتخيلة لفلسطيني شاب (يوسف) يقطن في قرية صغيرة في الضفة الغربية ويعمل في تصليح أجهزة التلفاز، لكنه يُحاول أن يخرج من بؤس وشقاء حياته عن طريق فكرة أشبه بالجنون، إذ قرر بناء صاروخ يوصله إلى القمر، لأنه أراد أن يرد على ما يشيعه الإسرائيليون عن الفلسطينيين بأن العكس صحيح وأن الفلسطيني قادر على الوصول للقمر. لقد أحببت هذه الفكرة جدا.

* هل تعرفين شيئا عن الأدب العربي أو قرأت بعض نماذجه ؟

** للأسف لم أقرأ الكثير من المعاصرين، من مصر قرأت بعض روايات لمحفوظ، ورواية عمارة يعقوبيان، وشعر محمود درويش، لكن للأسف الأدب العربي المترجم قليل، وأيضا لا يوجد تعريف نقدي به وبالتالي يصعب إيجاده. وبالمناسبة ما قرأته من محفوظ وعمارة يعقوبيان يذكرني كثيرا بإيران، فقد كنت في طفولتي أذكر أن أفراد العائلة كانوا يجرون مقارنة بين ما تفعله مصر وما تفعله إيران. المشكلة الكبيرة التي اكتشفتها أننا في إيران لم نسع للتعرف على جيراننا في المنطقة، رغم وجود مشتركات كثيرة، والآن أسال نفسي لماذا كان ينبغي التعرف على الأدب الغربي قبل أن أتعرف على الأدب العربي، طبعا كان لدي معرفة بابن عربي وابن سينا والغزالي وبالأدب العربي الكلاسيكي لكني لم أوثق علاقتي بالأدب العربي المعاصر. رغم أنني كثيرا ما أوضح لطلبتي أن الثقافة العربية مصدر للكثير من العلوم والآداب الغربية، والحقيقة أنا على يقين أننا في حضاراتنا الشرقية الكثير مما يستحق أن نفتخر به، لهذا لا أفهم لماذا نخشى من الغرب ولا ننظر إلى ثقافتنا باعتبارها ثقافة أصيلة.

…………………

*نقلاَ عن جريدة “الأهرام”

 

مقالات من نفس القسم