آدم حنين : الحجر علمني أسرار الحياة!

237.jpg
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام


ستون عاما قضاها آدم حنين في محراب النحت، يحاور الحجر، ويلهو فوق سطحه الصلد العتيد كطفل أدمن غواية اللعب، ولا يزال وهو في عباءة الثمانين شغوفا بهذه الغواية، ينوع ظلالها وخطوطها وأشكالها، حتى صارت بصمة لا تمحى من ذاكرة فن النحت في مصر والعالم.

في مرسمه بمنزله الريفي بقرية «الحرانية»، وعلى بعد كيلومترات من أهرامات الجيزة، إحدى معجزات الفراعنة والفن المصري القديم الذي تشربه آدم حنين، وصار حجر الزاوية في رؤيته للفن والحياة.. التقيته في حوار حول تجربته المتنوعة وجذورها وروافدها الإبداعية، وفيما تتقاطع وتتجاور في فضاء المشهد التشكيلي المعاصر.. وهنا نص الحوار:

 ستون عاما قضاها آدم حنين في محراب النحت، يحاور الحجر، ويلهو فوق سطحه الصلد العتيد كطفل أدمن غواية اللعب، ولا يزال وهو في عباءة الثمانين شغوفا بهذه الغواية، ينوع ظلالها وخطوطها وأشكالها، حتى صارت بصمة لا تمحى من ذاكرة فن النحت في مصر والعالم.

في مرسمه بمنزله الريفي بقرية «الحرانية»، وعلى بعد كيلومترات من أهرامات الجيزة، إحدى معجزات الفراعنة والفن المصري القديم الذي تشربه آدم حنين، وصار حجر الزاوية في رؤيته للفن والحياة.. التقيته في حوار حول تجربته المتنوعة وجذورها وروافدها الإبداعية، وفيما تتقاطع وتتجاور في فضاء المشهد التشكيلي المعاصر.. وهنا نص الحوار:

* بعد كل هذه السنين من الخبرة والجمال، هل تغير شكل، أو طعم الولع في اللعب مع الحجر؟

 

– لا.. لم يتغير، بل تأكد، أصبح فيه ثقة، ونتيجة للخبرة خف الإحساس بالقلق، بخاصة مع تذوق طعم النجاح، فالفن ثمرة تنضج في الإنسان، وأنا أرعى هذه الثمرة، أعرف أوان نضجها، ومتى يحين وقت القطاف. ربما تغير قليلا شعوري بالعمل، أصبحت أراه يتجدد من خلال مسافة ما، أصبحت أكثر طمأنينة لما أقوم به.

 

* ألا يدلنا هذا على حكمة، أو خلاصة، أو فلسفة بلورتها كل هذه الخبرة؟

 

– ربما تكون الحكمة في إحساسي الدائم بأن النحت مليء بأسرار كثيرة، وتتعلم منه الحياة كلها. أنت حينما تكسر الحجر، تحس بأشياء كثيرة تتحرك في وجدانك، وتندهك، تحس بأن ثمة حوارا بينك وبين الخامة، حتى وأنت تترجمها إلى لغة بصرية، وعلاقات شخصية، وتكسرها بطريقتك.

 

* كيف تستعيد الآن دهشة الطفل «آدم حنين» ابن الثماني سنوات، وهو يقف مشدوها أمام تمثال إخناتون بالمتحف المصري، خلال رحلة مدرسية، ثم يخفي قطعة من الصلصال في جيبه أخذها من مرسم المدرسة، ويصنع منها بورتريها طبق الأصل من إخناتون؟

 

– ما زال هذا الطفل كامنا في داخلي، ما زالت الدهشة قائمة، وهي أحد عناصر الخبرة التي أبحث عنها حتى اليوم.. أذكر أن والدي، وكان يعمل صائغا، فرح جدا بتمثالي، لدرجة أنه وضعه بفاترينة في واجهة المحل، وكان يتباهى به أمام أصدقائه والزائرين للمحل.

 

* من هذه الواقعة أحسست بأواصر النسب والقربى للفن المصري القديم؟

 

– لقد تشربت الفن الفرعوني وعشت في مناخاته، وما زلت أحس حين أقف أمام تمثال «شيخ البلد» بالمتحف نفسه، بأنه جدي. لقد حررني الفن الفرعوني من وطأة الإحساس بالزمن، بمعناه المادي الواقعي الضيق، وفتح عيني على زمن آخر، مترام، زمن الأبدية والخلود، زمن الفن. ما أريد أن ألفت إليه هنا، أن هذه الهزة، هذه الخلخلة التي انتابتني في تلك السن الغضة، أعطتني إحساسا بأنني أقف على أرض صلبة. ومع تراكم الخبرة أصبح لدى مقياس قوي، أقيس عليه رؤيتي للفن والحياة، هذا الميزان هو الفن الفرعوني، وقد عصمني من تشوهات بصرية وفنية، والانضواء تحت راية مذهب أو تيار أو مدرسة فنية، كالانطباعية والسوريالية والتكعيبية وغيرها، فرغم أني أفدت منها جميعا، فإنني كنت أحس دائما بأنها غريبة عن طينتي وتربتي.

 

تعزز هذا الميزان برافد آخر هو الفن الشعبي المصري، وهذا الفن عجينة بصرية، من التراث القبطي والإسلامي، ولا تزال شواهده حية، في الجوامع والكنائس والقصور الملكية، وفي القلاع والحصون، وأيضا في التراث الأدبي السردي، وبخاصة الملاحم والسير الشعبية. لقد قلت لنفسي: ما دام لدي هذا التراث الخصب، لماذا ألجأ إلى الغرب؟!

 

* لكنك سافرت إلى الغرب، أقمت نحو 25 سنة في باريس، بالإضافة إلى سنوات أخرى في ألمانيا وإيطاليا، وغيرهما.. خلال كل هذا الاحتكاك المباشر بالغرب، ألم يتغير، أو يهتز هذا المقياس؟

 

– بالعكس، ازداد رسوخا ويقينا، وأدركت أنني في الطريق الصح. ومع ذلك لا أنكر أنني التقيت فنانين، وزرت متاحف، وأقمت معارض، وحققت بعضا من الشهرة، واقتربت على نحو خاص من فنانين أحبهم، مثل قسطنطين برانكوزي، هنري مور، أرتولد مارتيني، جياكومتي، وغيرهم ممن يشكلون نقطة التحول في لغة فن النحت الحديث. لكن ما أحب أن ألفت إليه في محصلة هذه الرحلة أنها كانت بمثابة برهان على صدق ميزاني الفني النابع من بيئتي وتراثي الحضاري العريق، وكانت الترجمة العملية لهذا الصدق أنني عقب عودتي أسست في عام 1996، وبتشجيع ودعم من فاروق حسني وزير الثقافة، سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت، لأعيد لمصر مقوما أصيلا من مقومات جمالها وهويتها. لقد كنت أخجل من نفسي حين يحدثني بانبهار فنانون فرنسيون وأجانب عن الفن الفرعوني، فن النحت على الحجر، وكانوا يستغربون من عدم التواصل معه، والنظر إليه كفن عظيم محبوس داخل جدران المعابد والمتاحف.. ونجح السمبوزيوم، وانتشرت الفكرة في عدد من البلدان العربية.

 

* من «الموتيف» المفرد في الخمسينات، ومقاربة الخامة، والاهتمام بالموضوع، في أشكال نحتية صغيرة، ورسومات ملونة وأخرى على الجبس، ثم تحويل الشكل في الستينات بقوة ونصاعة إلى قناع ورمز ودلالة، ثم دخول مفردات الحيوان والنبات، والعادات الشعبية في فترتي الثمانينات والتسعينات، وفي ثنائيات وإيقاعات خطية متبادلة ومتضادة، والتعامل مع خامات متنوعة، كالجص والخزف الزلطي، الرخام والغرانيت، والاهتمام بلغة التلميح والاختزال في الإشارة إلى الواقع، ثم بعد ذلك الإنشائية الصرحية، ذات النزعة التركيبية، سواء في النحت أو الرسم.. برأيك، ما الخيط الجمالي الذي يصل ويربط بين كل هذه المراحل؟

 

– الفن حركة متصلة، وأنا أنظر إلى مراحلي الفنية وكأنها قوس واحد، مفتوح على لحظة البداية والنهاية معا. أحيانا أتوقف، ثم أعود بعد سنة أو اثنتين، أو ثلاثة، ولا أسمي هذا قطعا، وإنما محاولة لإعادة النظر والتأمل والقراءة، واختبار الرؤى والأفكار، في حواري مع المادة.. أحيانا أبدأ في عمل بحماس، ثم أتركه لأسباب لا أفهمهما، ثم أعود لأكمله بعد عدة سنوات. وحين أحاول أن أفسر ذلك، على الأقل بالنسبة لي، أتصور أن ثمة إيقاعا، أو زمنا ما، كان هاربا في لحظة، ثم عاد من جديد.. وهكذا، فالفن بالنسبة لي هو حفر في الذات واكتشاف لخباياها.

 

* الحلم أم الذاكرة.. أيهما أكثر تأثيرا عليك في لحظة العمل؟

 

– أنا أنحاز دوما إلى الحلم، فأنا أحلم وأنا أعمل. الحلم بالنسبة لي هو بمثابة دبيب خاص، منه تتفجر شرارة الإبداع، كما يفتح أمامي سككا ودروبا لا تنتهي، وفي ظني من المستحيل أن يوجد فنان بلا ذاكرة، لأن معنى ذلك أنه لا يستطيع أن يحلم، بل سيفقد الثقة في نفسه.

 

* في أعمالك يبرز التوازن كهمزة وصل، ونقطة إيقاع أساسية، بين عناصر الثقل والخفة.. هل تتغير حركية هذه النقطة على محور الإيقاع، ما بين الأعمال ذات الأحجام الكبيرة والصغيرة، وهل تشكل جدلية ما، أو حالة من الهمس والبوح بين الأسطح المسطحة المصقولة، والأخرى المتداخلة في خطوط منسابة بنعومة وحنو؟

 

– حركة الكتلة ساكنة في داخلها، وعمل الفنان يكمن في أن يجعلها تطفو على السطح، وهذا يتبدى من خلال وعي عميق بعملية المزج بين الثقل والخفة، بحيث يشكل كلاهما الآخر، ويفيض عنه بتلقائية وعفوية، وهذا أحد الدروس الأساسية التي تعلمتها من الفن المصري القديم، فنحت الفراعنة وتماثيلهم لا تزال تطفو فوق سطح الزمان والمكان، وقادرة على أن تمنحك الدهشة في كل مرة تراها.

 

* هل تطمح تماثيلك أن تتمتع بهذا الطفو الخالد؟

 

– أحيانا أحس بأن تماثيلي تطفو فوق سطح الماء، وهذا يسعدني كثيرا، ويحفزني على المزيد من العمل.

 

* احتفيت بفن الرسم في معرض حاشد منذ عدة سنوات، وقدمت مغامرة لافتة في استخدام الأصباغ الطبيعية في جماليات الوصل والقطع على ورق البردي، بالإضافة إلى الأحبار والأكريلك والفحم.. لماذا تهرب أحيانا إلى الرسم؟ وهل يشكل لك نوعا من استراحة المحارب، المكدود من تعب النحت على الحجر الصلب؟

 

– هذا صحيح إلى حد ما.. فأنا حين أتعب من النحت، وتفرغ طاقتي، أهرع إلى الرسم، لالتقاط الأنفاس، وأشحن طاقتي عاطفيا وفنيا، ومن ثم التهيؤ للعودة بقوة إلى النحت.. الرسم فن سريع وبسيط، ولا يحتاج إلى وقت طويل كالنحت، الكتلة في الرسم صورية في علاقتها بالفراغ، أما في النحت فالمسألة تختلف.. ضع كتلة غرانيتية كبيرة في حجرة، وانظر إلى الفراغ من حولها، لا يمكن أن تحيِّده، فالعلاقة هنا عضوية بين الكتلة والفراغ، إنها علاقة وجود، فالكتلة هي التي تحدد شكل الفراغ، وشكل العلاقة معه، لذلك أنا أتعامل مع الرسم على أنه معمل أبحاث وأفكار للنحت.

 

* استعارتك الفرعونية المحدثة والمركبة، وصلت إلى ذروة تجليها في عملك المركب «سفينة الشمس سفينة الحياة»، أو سفينة آدم، حتى يبدو أن ثمة مقاربة بينها وبين السفن الجنائزية، مثل «مراكب الشمس» التي كانت تمخر عباب النيل، كي تصاحب الملك في مقبرته إلى العالم الآخر.. لكنها هنا رست في حديقة منزلك، في الهواء الطلق، في حضن الأهرامات.. ما هي فلسفتك وراء هذا التركيب، وهل يشكل هذا التجاور بين أشكال وكتل متنوعة (بشر، حيوانات، طيور، أسماك، نباتات) انقلابا على مراحلك الفنية السابقة.. هل نحن أيضا بصدد استعارة ضمنية لسفينة نوح التاريخية، كمحاولة للخلاص أو الهروب من الطوفان؟! – هي ليست استعارة، بل محاولة للتواصل مع روح خلاقة، وأنا لا أرى فيها انقلابا على شغلي السابق. لقد حاولت أن أختبر هذه الأشكال من خلال قيمة التجاور بمعناه الفني، وكيف سيكمل بعضها بعضا، وهل سيتغير شكلها وشكل خبرتي وإحساسي بها. ويبدو لي أنني اختزلت رحلة الكثير من شخوصي في هذا العمل، وفي الوقت نفسه، فتحت لها نوافذ جديدة، تطل منها على حياتها ووجودها، حتى بدت لي أحيانا وكأنها تشارف تخوم الأسطورة وروح الملحمة. كما أن وجود هذا العمل في حديقة مرسمي، في فضاء مفتوح، هو الرحم الطبيعي له، بعيدا عن رتابة المتاحف والأماكن المغلقة، حتى أصبحت أحس أحيانا، بأن ثمة علاقة تتجدد بينه وبين الطبيعة من حوله.

 

* مغامرتك الفنية مع القوام، أو الشكل الأنثوي، تبدو أكثر تدفقا وحيوية في الرسم عنها في النحت، حيث تسود الحلول والابتكارات النمطية المشوبة بقدر من الحذر والانسجام الساكن.. كيف ترى ذلك؟

 

– علاقتي بالمرأة علاقة خاصة، وأنا أتعامل معها فنيا باحترام ووقار، فأنا أشعر بعدم الراحة وأضجر من التعبير عن المرأة بشكل مبتذل، وفي أعمالي أحرص دائما على أن أعيد لهذا الجوهر الأنثوي الإنساني قوته وتماسكه، وحيويته، بل قداسته، لا أبتذله في نزوات فنية طائشة، وأنا أرى أنه من الخطأ أن نحصر فكرة الأنوثة، أو الحسية في المرأة، ونحولها إلى مجرد مضمون، يثير نوعا من الهياج العابر، كما يحدث لدى الكثير من الفنانين والأدباء. الحياة من حولنا مليئة بمقومات أنثوية وحسية مثيرة للدهشة والتساؤل والتأمل، ويبدو لي أن المسالة ترتبط بالتربية أساسا: ما الذي يجب أن تصرح به، وما الذي يجب أن تخفيه، وكيف حين تصرح لا تقع في الفجاجة، وإنما تومئ وتلمِّح من بعيد، وكل هذا يتطلب مهارة ومقدرة لها ما يبررها فنيا وجماليا.

 

* محمود مختار رائد فن النحت الحديث في مصر، بينكما قواسم ووشائج مشتركة، على مستوى التعامل مع الخامة، والإرث الحضاري الفرعوني، وإن اختلفتما في اللغة والرؤية.. كيف ترى مختار في هذا السياق؟

 

– كنا في مرحلة لا بد أن يكون فيها مختار، لأنه لم يكن لدينا فن ونحت، مختار عمل أشياء عظيمة، بلور لنا أفكارا مهمة في الفن والنحت، وفتح أعيننا على الروح المصرية، لكنه ذهب أكثر إلى أوروبا، بخاصة الفن الروماني، انظر إلى تمثاله «إيزيس»، الجسم والوجه وحركة اليدين، بها ملامح الفن الروماني، وعلى عكس تمثاله لسعد زغلول، فالجسم والحركة والقاعدة مصرية، وبه سمات الفن المصري القديم.

 

* لكن هذا التأثر والتجريب مألوف في سياق تجربة أي فنان.

 

– نعم، لكن سأقول لك بصراحة، أنا منذ حداثة سني الفنية، كانت عندي اعتراضات كثيرة على شغل مختار، كانت ميولي وأنا طالب في كلية الفنون الجميلة يسارية، وحينذاك كان الشعب المصري وقضاياه، ومعاناته، في التحرر من ربقة الاحتلال الأجنبي، وفساد الحكم، في هذا الجو لم أكن أستطيع مثلا أن أتفرج على تمثال الفلاحة لمختار. هو تمثال لذيذ وحلو، ومعمول بحرفية عالية، والست «لابسه حرير في حرير»، لكن ليست هذه هي الفلاحة المصرية المكدودة والمهضومة، التي تعاني في الحقل والبيت، وتنز العرق، وتلهث وراء لقمة العيش. لكن في النهاية مختار لديه أعمال عظيمة، وجاء في فترة مهمة، ومات صغيرا وهو في أوج تجربته وعطائه الفني.

 

* ما الهاجس الفني الذي يقض مضجعك بعد كل هذه السنوات، ويجعلك تلتقط الأزميل، وتنتشي بجماليات تكسير الحجر؟

 

– الهاجس كامن في الخبرة، ومتجدد، وكثيرا ما يقلقني، ويقض مضجعي بالفعل، وهو بالنسبة لي أصبح ضرورة، بعدما اخترت لنفسي سكة معينة، ومسارا أمشي فيه، وهذا الهاجس ينجيني من أشياء كثيرة معطلة ومفسدة، وأنا أشعر بتوازني النفسي حين أنحت.

 

* كيف ترى حركة النحت في الوطن العربي، وهل ثمة ملامح ما، أو خصوصية لها؟

 

– النحت طلع في مصر وفي العراق، على الأقل الأشياء المهمة، وذلك بحكم الرافد الحضاري للبلدين، وفي بعض دول المغرب العربي حركة نحتية حثيثة، هناك أيضا اللبنانيون، وهم أصحاب تجارب لها صلة قوية بالفن الأوروبي، بحكم علاقاتهم الممتدة مع فرنسا. لكن الأفكار التي تطفو على السطح هنا وهناك بين الحين والآخر، وتدعو إلى تحريم الفن وصناعة التماثيل، أو دعاوى أخرى تدعو إلى وضع أسوار وحواجز على عملية التذوق والتمتع بالفن، تضر بتطور حركة النحت والفن في العالم العربي، وتعطي انطباعا سلبيا لدى الغرب بأننا قوم نعادي الفن والجمال.

 

* نحو 15 عاما مرت على انطلاقة سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت، وأنت «قومسييره» المسؤول عنه، ورغم ما حققه من نجاحات، فإن السمبوزيوم منبتّ الصلة والعلاقة بينه وبين أقسام النحت في الكليات والمعاهد الفنية، بل أصبح الكثير من هواة النحت ينفرون من النحت على الخامات الصلبة الأم الأصلية كالغرانيت والرخام، ويلجأون في المقابل إلى خامات هشة ومفتعلة كالمعادن والأسلاك والصفائح، بدعوى مواكبة موضات النحت الجديدة.. هل السمبوزيوم للنخبة فقط من الفنانين؟ وما هو السبيل لكي نحقق هذه العلاقة بين السمبوزيوم وبين هذه المؤسسات المعنية؟

 

– نعم، السمبوزيوم محترف نخبة، وما تشير إليه ليس مشكلة السمبوزيوم، وإنما مشكلة القائمين على تدريس الفنون في هذه المؤسسات. قبل السمبوزيوم لم يكن عندنا نحت يذكر على الحجر، لذلك كان همنا الأساسي أن نعيد نحت الحجر، بخاصة في ظل الفوضى النحتية، وزمن التريكو والموضة (غرزة هنا، وشوية حاجات متناثرة) لا رابط بينها، كما أننا تفتقد القدوة الفنية.. ونحن في السمبوزيوم ندعو في كل دورة 15 فنانا نصفهم من الفنانين العالميين الأجانب والعرب، المعروفين بشغلهم على الحجر، والنصف الآخر فنانون مصريون، ونوفر لهم الأدوات والخامات والمناخ، من أحجار الغرانيت والرخام المتوافرة بكثرة في أسوان، ويعملون في ورشة مفتوحة على مدى شهرين، يتبادلون الخبرات والحوار والمعرفة، كل فنان ينحت ما يريد. وعلى مدار هذه السنوات أفرز السمبوزيوم نحو 30 فنانا مصريا ينحتون على الحجر. وفنيا كان همنا توحيد المادة، وهذا التوحيد أوجد لغة فنية وبصرية واحدة، متكاملة ومتفردة. كما أعاد للنحت إيقاعه الحميم، كونه حوارا بينك وبين المادة، سواء كانت تتشكل في حجر أو خشب، وكل مادة تفرض شكلها على العمل، وعلى الفنان نفسه. وهذا الشكل يتبلور من خلال كيفية تعامل الفنان مع هذه المادة، ومن ثم تبرز فكرة التنوع داخل الوحدة.. وكلها سمات فنية أفرزها واكتسبها السمبوزيوم.

 

* لماذا لا يتسع فضاء السمبوزيوم لفنون أخرى من النحت الحديث، كالنحت الحركي، والنحت على المعادن، وعلى الخشب، واستخدام خامات أخرى مع الحجر؟

 

– كل هذا جميل، لكن لا بد أن يكون عندك أساس، وأصل رابط بينك وبين الخامة، ولن يكون هذا الرابط هو الثاني أو الثالث أو الرابع. الأصل في السمبوزيوم هو الحجر، وهناك فنانون يطعمون أعمالهم ببعض الموتيفات المعدنية، ولا مانع في هذا، طالما يثري ويضيف إلى الخامة الأساسية.. أسوان غنية بالحجر، ولها تراث عريق في نحته، ونحن نريد أن نعيد حكاية ذلك التراث بروح جديدة.

 

* بعد كل هذا العطاء المتميز، ألم يحِن الوقت ليستمتع المصريون بتمثال نُصبي لآدم حنين في أحد ميادين القاهرة، بجوار تماثيل لمختار، وأخرى لفنانين أجانب عالميين جسدوا فيها نخبة من رموز مصر؟

 

(بأسى أجاب آدم حنين):

 

– لمّا يطلبوا مني، لمّا الدولة تطلب مني.

 

* سألته: أليس السمبوزيوم مؤسسة رسمية تشكل نقطة انطلاق لذلك؟

 

ازدادت نظرة الأسى حدة، وكأنني نكأت جرحا خاصا في نفسه، وأجاب بنبرة مشوبة بعصبية: يا قصاص أنت تعرف أن تماثيل الميادين لها مواصفات خاصة، وتتطلب جهدا وتكلفة كبيرين.

 

ثم صمت آدم للحظات وقال: أنا ليس عندي نفَس في هذه الحكاية، ولا أفكر فيها، لأنه ليس عندك ميادين محترمة، ليس عندك نظام، عندك يفط ولافتات بشعة، عندك قوانين بالية، عندك أي حد يفوت يربط أي حاجة في أي حاجة، أنت عايش في خرابة، اسمها مدينة، «أنا أحط تماثيلي فين؟!».. وهذه مسألة تلف وتدور تجد أنها مرتبطة بالتعليم.. لما الناس تتعلم بشكل صحيح، لما المحافظ يتعلم، لما الوزير يتعلم، لما يكون عندك وعي وحب للفن، لما يبقى لدينا مسؤول عن مدينة، ويعمل بشكل حقيقي.. محافظ يرسل لوزير الثقافة: محتاجين عملين من السمبوزيوم يتحطوا في ميدانين بالمحافظة، من دون أن يستشيرنا في طبيعة المكان: عايز أشيل اليفط، عايز أعلي الأرض شوية، عايز أعمل قاعدة للتمثال.. وفي النهاية تحولت بعض هذه التماثيل إلى أكوام للزبالة.. إذن تماثيل الميادين في النهاية هي اختيارات محافظين، وأغلبهم لا يفقه شيئا في الفن، وهذه مأساة مجموعة التماثيل الحديثة في القاهرة، ومنها تماثيل لنجيب محفوظ، وطه حسين، وأم كلثوم.

 

* في النهاية سألته بحماس وتعاطف شديدين: لو انتفى كل هذا القبح، لو توافرت الشروط الجمالية والمعمارية لتبدع تمثالا يليق بمدينة متحضرة.. هل تقوم بهذا؟

 

بسرعة وبلهفة طفل كأنه يحلم أجاب الفنان الكبير: نعم.. يا ريت!!

 

* آدم حنين.. سيرة موجزة:

* ولد بالقاهرة في عام 1929.

* تخرج في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة قسم النحت عام 1953.

* دراسة بأكاديمية الفنون الجميلة (ميونخ) بألمانيا لمدة أربعة فصول دراسية.

* عمل رساما صحافيا لمدة 10 أشهر.

* أقام في باريس منذ 1971 ولمدة 25 عاما كفنان محترف ولم يلتحق بأية وظيفة وكان يعيش من إنتاجه الفني.

* شارك في الفياك بباريس 1980،1981،1983.

* عقب عودته إلى مصر أسس سمبوزيوم النحت الدولي في أسوان وأشرف عليه منذ بدايته عام 1996 حتى الآن.

* عاش في: القاهرة، الأقصر، النوبة، ألمانيا، إيطاليا.

* أقام معارض خاصة ومحلية في القاهرة وعدد من البلدان الأوروبية، وفي عام 1999 أقام متحف المتروبوليتان بنيويورك معرضا خاصا لأعماله النحتية.

* في عام 2006 احتفت به مؤسسة «المنصورية» بجدة في معرض تذكاري شامل بقصر الأمير طاز بحي القلعة بالقاهرة.

* أقيم له معرض بقاعة «أفق واحد» بمتحف محمد محمود خليل وحرمه نوفمبر2007.

* له أعمال من الخزف الملون على واجهة مدينة الفنون بالهرم بالجيزة.

* له تمثال صغير من البرونز على شكل طائر محلق الجناحين أمام مبنى صحيفة «الأهرام» بالقاهرة.

* شارك في ترميم تمثال أبو الهول بالجيزة 1990.

* عضو لجان التحكيم للمعارض العامة والدولية منذ 1971 ومهرجان السينما بالقاهرة والإسكندرية.

* حصل على الجائزة الكبرى لبينالي القاهرة الدولي 1992.

* كرم في معرض المكرمون 1996، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1998. وجائزة مبارك عام 2004.

* من أهم مقتنياته الرسمية: تمثال حامل القدور من البرونز في حديقة النحت الدولية بأميركا 1960 – ثلاث قطع بمتحف الفن المصري الحديث أهمها تمثال «البومة» 1965 – تمثال «الحمار» الذي ثبته الفنان الراحل رمسيس ويصا واصف في قرية الحرانية بالجيزة – تمثال «طائر» من الرخام الأبيض بأكاديمية الفنون في روما – تمثال «حامل القدور» 1960 في حديقة النحت الدولية بمدينة دالاس في تكساس – تمثال «الطائر» في حديقة الأكاديمية المصرية للفنون الجميلة بروما – و«المحارب» في فناء مكتبة القاهرة الكبرى.

مقالات من نفس القسم